في أسباب عطالة المنظومة الاقتصادية

لا شك أن التشخيص السليم لأية منظومة هو المدخل الوحيد لامكانية الاصلاح والتقويم،

والتشخيص يتضمن مستويين رئيسيين: الوصف الدقيق والوقوف على الأسباب الظاهرة والعميقة، وبهذا المعنى يمكن أن نقوق أن التشخيص السليم للمنظومة الاقتصادية التونسية قبل الثورة لم يحصل بعد عند أهم الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وهذا لا يعني استحالة قيام هذا التشخيص عند الأفراد لكن هذه الأصوات ظلت معزولة إلى حد اليوم.

وأهمية التشخيص لا تكمن فقط في فهم آليات الماضي بل في تفسير العطالة شبه التامة للحاضر.

ما استحال على جلّ النخب بعد الثورة فهمه هو أن المنظومة الاقتصادية التونسية هي في نفس الوقت تاريخ فشل واخفاقات كما أنها مسار انجازات ونجاحات ودون فهم هذه الجدلية بين الأمرين سيستحيل كل تشخيص جدي وبالتالي كل امكانية إصلاح فعلية.

غياب هذه النظرة الجدلية لديناميكيات النجاح والاخفاق في التجربة التونسية دفع بنا جميعا الى الاعتقاد بأن الاصلاحات الهيكلية وحدها مع القطع مع الماضي هي القادرة على النهوض باقتصاد البلاد وبالطبع وضعت كل جهة ما تريد تحت خانة «الاصلاحات الهيكلية» أو «المنوال التنموي الجديد» من أفكار جلها نبيل، لكن علاقتها بالواقع الاقتصادي للبلاد ضعيفة للغاية ولعلنا بلغنا هذه الأشهر الأخيرة القمة في هذا التمشي وذلك بالتنظير الواضح أحيانا والضمني في أحيان كثيرة بأن كل ما حصل في البلاد على امتداد أكثر من نصف قرن (تحديدا مع بداية تولي المرحوم الهادي نويرة مقاليد القصبة يوم 2 نوفمبر 1970) هو سياسات اقتصادية «ليبيرالية» و«غير شعبية» وغير ذلك من شعارات كان يرددها الطلبة ابان حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة. وهكذا يكون الحلّ عودة «الدولة الاجتماعية» أي دولة الستينات مع بعض التعديلات ومحاربة الاقتصاد الريعي واللوبيات وتطهير الادارة... فكل هذه «الانحرافات» التي نشأت منذ السبعينات وتعمقت مع «العشرية السوداء» هي أصل الداء بل أصل كل داء والقطع معها كلها هو بداية الدواء..

لهذه الأسباب، ولغيرها، لا تقدم الحلول اليوم الا باعتبارها اصلاحات قانونية لأن المنظومات المتعاقبة على الحكم منذ نصف قرن قد وضعت قوانين على المقاس لخدمة مصالحها..

في خضم كل هذا لم نسأل أنفسنا كيف تمكنت البلاد على امتداد نصف قرن من الاستقلال (من بداية الستينات الى مشارف الثورة) من تحقيق معدل نمو سنوي في حدود 5 ٪؟

لنأخذ مثالا حيا على ما كنا نقول: لماذا يتأخر انجاز المشاريع عندنا منذ 2011 الى حدّ اليوم؟

الجواب الذي قدمه الحكام الذين تداولوا على السلطة هو التالي: تعقد اجراءات الصفقات العمومية ثم خوف كبار الموظفين من الفصل 96 من المجلة الجزائية (تهمة الاضرار بمصالح الادارة وتحقيق فائدة لنفسه أو لغيره) وأخيرا اللوبيات التي تسربت الى الادارة قصد منعها من الانجاز.

ترتبط بمسألة المشاريع العمومية أجزاء هامة من الآلة الانتاجية للدولة فعندما تطلق الدولة مشروعا عموميا يعهد انجازه الى القطاع الخاص الذي يستثمر بدوره في الآليات والمعدات وينتدب اليد العاملة وترتفع تبعا لذلك ولو نسبيا القيمة المضافة وانتاجية العوامل. والسؤال هنا يصبح لمَ اخفقت الدولة بعد الثورة في ما كانت تنجزه بانتظام وبكل يسر ما قبلها؟ لماذا فقدت الدولة نجاعتها في انجاز المشاريع العمومية؟ وهل أن العيب في القوانين المنظمة للصفقات العمومية أم في حوكمة الدولة لمشاريعها العمومية؟

الجواب بسيط للغاية: دولة الاستقلال علىامتداد عقودها الخمسة الأولى قبل الثورة كانت تعتمد في جل المواقع التنفيذية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية (من الوزير الىالمعتمد) على الكفاءات، كفاءات ولاؤها في جله للسلطة ولكنها كفاءات من طراز جيد وأحيانا مرتفع للغاية... كفاءات تدرك أن المشروع العمومي، خاصة عندما يكون ضخما، يحتاج الى سنوات قد تطول من الدراسة وانتزاع الأراضي والمناقصات قبل الانطلاق فيه، لذلك يتسم الاستعداد الجيد لها وبرمجتها في أحد مخططات التنمية قبل سنوات، فالدولة كانت في ذات الوقت تواصل تنفيذ المشاريع العمومية التي دخلت طور الانجاز وتخطط للمشاريع القادمة حتىتكون الآلة الانتاجية في نسق اشتغال مستمر لا انقطاع فيه، ثم حتى لو اعتبرنا أن الدور الاجتماعي للدولة قد تراجع الى حدّ ما مع فترة حكم بن علي الا أن دورها الاقتصادي والتنموي كذلك بقي قويا بفضل هذه الكفاءات التي تنجز الآني وتخطط للسنوات القادمة.

ماذا حصل بعد الثورة الى حدّ اليوم؟ تضحية مستمرة ومتواصلة بالكفاءات وتعويضهم بموالين لا قدرة لهم لا على تسيير البشر ولا على ادارة المشاريع ولا استباق ولا تخطيط.

نحن أمام أحد «ثمار» عدم الاعتراف بعوامل نجاح دولة الاستقلال، والأكيد أن الكلفة ستزداد ارتفاعا في السنوات القادمة

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115