باعلانه عن ضرورة وضع حد لهذا النمط من العلاقات الشغلية وتوفير ضمانات للعاملين والاجراء دون الكشف عن تصوره الكامل لكيفية تحقيق ذلك.
وقد حافظت السلطة على تمشيها القائم على طرح تصوراتها وتوجهاتها دون تفكيكها او شرح كيفية تحقيقها، وهذا لا يحجب عنا اننا اليوم ازاء ارادة سياسية لوضع حد لاشكال العمل الهش وذلك عنصر ايجابي حتى وان غابت بقية تفاصيل تصور السلطة التنفيذية التي بادرت عن طريق الحكومة اليوم الى البحث عن خطة عمل تنزل الشعار السياسي الذي رفعه الرئيس وهو وضع حد للمناولة.
مساء الاثنين الفارط اعلنت رئاسة الحكومة ان أحمد الحشّاني اشرف على جلسة عمل وزارية حول ملف المناولة «تكريسًا للسّياسة العامة للدولة التي ضبطها رئيس الجمهورية قيس سعيد» وفق نص البلاغ الصادر اثر الجلسة، وتبيّن انه لا يوجد تصور بعد لانهاء عقود العمل الهشة والمناولة، وينتظر ان تقوم لجنة مكونة من اخصائيين عن رئاسة الحكومة ووزارة المالية ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة التشغيل والتكوين المهني ووزارة الداخلية بجرد وتقييم الآثار الاقتصادية والاجتماعية والمالية لانهاء العمل بالمناولة في القطاع العمومي.
هنا وعند الانتقال من الخطاب السياسي الى صياغة سياسات عمومية في علاقة باشكال العمل الهش والمناولة يتضح ان خطوة الحكومة اقتصرت على «القطاع العمومي» دون غيره، اذ لم تكشف عن اعادة النظر في مجلية الشغل الصادرة في 1966 او عن اعادة صياغة تصورات كبرى تسمح لاحقا باقرار سياسات عمومية لمجال العمل والشغل والعلاقات التعاقدية بين الاجير والمؤجّر في اطار اشمل يتضمن رؤية اقتصادية جديدة للبلاد.
وكشفت الحكومة في بلاغها الصادر يوم الاثنين الفارط عن انها تتجه الى البحث عن ادماج العاملين بعقود عمل هشة في القطاع العمومي حتى وان كانت لا تعرف كيفية تحقيق ذلك، وهي تنظر الى الامر على انه «تعليمات» يجب ان تنفذ، لا شعارا سياسيا يحتاج الى التفكيك والعمل على جعله واقعا اقتصاديا واجتماعيا ضمن رؤية استراتيجية اعم تهدف الى خلق الثروة والرفاه للتونسين.
ويبدو ان الحكومة اختارت ان تمضى في الطريق القديم الذي سلكته من قبلها حكومات ما بعد 2011 مجنبة نفسها عناء البحث والتفكير عن حلول جديدة خارج الصندوق التقليدي والمألوف من سياسات يتفق الجميع اليوم على عدم قدرتها على معالجة الاشكاليات المعاصرة للمجتمع التونسي ولاقتصاده.
ويخشى من هذا التمشي ان نهدر مرة اخرى فرصة مناقشة الملف ضمن اطاره الاشمل، فالعمل او عقود العمل الهشة نتيجية لاختلالات كبرى استفاد منها المقربون من نظام الحكم بهدف تحقيق قدر اكبر من الربح مع الضغط على كلفة العمل، بهدف ضمان توازنات مالية عمومية يكون الخاسر الابرز فيها الاجير اي ان المناولة وعقود العمل الهشة نتاج طبيعي لخلل هيكلي في الاقتصاد وسوء الحوكمة من قبل السلطة التي تجعل من «قوة العمل/ الجهد المبذول» في بعض القطاعات والاختصاصات ريعا توزعه على المقربين منها او ورقة لشراء السلم الاجتماعي دون الاكتراث للتداعيات اللاحقة, اذ ان المناولة التي لا يعرفها المشرع التونسي او يفردها بتنظيم خاص هي علاقة شغلية بين ثلاثة اطراف، الطرف الاصلي وهو المستفيد من قوة العمل، والطرف الثاني هو الوسيط الذي يتولى اسداء خدمة تتمثل في توفير اليد العاملة للمؤسسة الاصلية، والطرف الثالث وهو الطرف الاضعف والخاسر في هذه العلاقة هو العامل/العاملة.
اعادة النظر في هذا الشكل من العمل الهش دون الانتباه الى فخ «الاستنتاج الاولي» الذي وللاسف توحي الحكومة بانها وقعت فيه في انتظار ما ستحدده من قرارات واجراءات، سيجعل من صاحبه اسيرا لتصور مسبق يسقط كل السياقات المحيطة بالعمل والشغل والعلاقة الشغلية من سياقات اقتصادية واجتماعية … الخ.
النظر الى العمل على انه فقط المهام التي يقع انجازها من قبل فرد معين في زمن محدد وبجهد مبذول او على انه احد ادوات الادماج الاجتماعي للافراد، او على انه اساس تدور حوله حيوات الافراد، او على انّه «الرصيد الأصلي لكل امة يُزوِّدها بكل ما تستهلكه سنويّاً من ضروريات الحياة وكمالياتها» كما اقترح ذلك ادم سميث او على انه العامل الذي تتمحور حوله المجتمعات المعاصرة كما يقول اندري غورز، او على انه وفق تصورنا العام المصدر الأساسي للدخل والسمة المركزية للحياة اليومية للراشدين على الاقل أو وفق اي تصور فلسفي ايديولوجي لا يدرك اليوم اننا ازاء اقتصاد استهلاكي يصبح فيه العمل والاجر الذي يتقاضاه جزءا في دورة استهلاكية تولد الطلب على السلع والخدمات وترفع من نسق الادخار، اي انها تصبح رافدا اساسيا في التنمية وخلق الثروة، وفي ذلك اهدارا لفرصة اخرى لنا كتونسيين لنقاش عام يهدف الى تقديم تصورات تصبح سياسات عمومية تهدف الى خلق الثروة واعادة توزيعها العادل على التونسين دون ان نقع في تكرار اخطاء الاخرين او تجارب انهارت لانها قدمت الايديولوجي والانطباعية.
اننا اليوم امام فرصة لمناقشة اشكال العمل والاجر الادنى وحقوق الشغالين والاجراء وضمانات حمايتهم والافضل ان يتم هذا ونحن نطرح على طاولة النقاش ملف كيفية خلق الثروة واي انماط انتاج نتجه اليها واي موقع لنا في المشهد الاقتصادي والفرص المتاحة لنا للرفع من الناتج الوطني الاجمالي ونصيب الفرد فيه وغيرها من الملفات التي تتعلق بحياة التونسين وكيفية تحقيق العيش الكريم لهم