وحدها لتفسير المشهد الاقتصادي التونسي وذلك دون حاجة الى انتقاء مفردات او مصطلحات تصف الوضع -رغم دقته- بعيدا عن المبالغة او التخفيف والتجميل، فالارقام كفيلة لوحدها لوصف ما نحن فيه، وهو تسارع وتيرة الانكماش اقتصادي الذي تتجلى صورته في المعطيات التي تكشف عن تراجع النمو السنوي وتراجع حجم الناتج المحلي الاجمالي وتراجع الطلب الداخلي خلال الاشهر الستة الاخيرة من السنة.
اولى المعطيات التي تقدمها نشرية معهد الاحصاء نسبة النمو التي حققها الاقتصاد التونسي خلال كامل سنة 2023 والتي تقدر بـ 0.4 %، وهو رقم بعيد عما قدمته الحكومة في تصريحات وزرائها او في قانون ماليتها التعديلي الصادر في أكتوبر الفارط من نسبة نمو متوقعة لسنة 2023 بـ0,9 %.
نمو ضعيف وهش نجم عن عدة عوامل تقاطعت لتشكل مشهدا اقتصاديا كفيلا بدق اجراس الخطر، فتراجع نسبة النمو الى هذه النسبة المختلفة كليا عما قدم في بداية السنة من توقعات بنمو بنسبة 1,8 % او في نهايتها 0,9 % لا يكشف عن خلل في عملية الاحتساب او قياس النسبة ولا عن خطإ تقديرات الحكومة بل عن وضع اقتصادي معقد سمته الاساسية الهشاشة والانكماش الذي ينبئ بخطر «الكساد».
كساد تنذر به المعطيات الخاصة بالثلاثين الثالثة والرابعة والتي تكشف عن أن النشاط الاقتصادي التونسي سجل انخفاضا في حجم الناتج المحلي الإجمالي اي حجم الثورة المنتجة في الاقتصاد التونسي الذي تفيد مؤشراته اليوم انه يعاني من معضلة تتهدده وهي تراجع الطلب الداخلي خلال الاشهر الستة الاخيرة من السنة بنسبة 0,2 %. اي ان البلاد عاشت على وقع تراجع نفقات الاستهلاك والاستثمار خلال الاشهر الستة الفارطة.
تراجع لا يمكن أن يقع تفكيك اسبابه أو شرحه، وقد لا يحتاج الامر الى ذلك لتفسير التداعيات المحتملة على الاقتصاد التونسي، فتراجع الاستهلاك يعني تراجع الطلب على المواد والمنتجات والسلع والخدمات في السوق وهو ما قد يؤدي الى تراجع العرض والانتاج مما قد يؤدي الى سلسلة من التفاعلات السلبية التي تطال الاقتصاد وتجره الى الانكماش فالركود.
ما تكشفه المعطيات المعلن عنها ان الاقتصاد التونسي يمر بمرحلة ركود منذ 2022 التي سجل فيها نسبة بــــ 2.4 % في تراجع لنسق نمو الذي سجل في 2021 نسبة بـ4.3 %، اي ان الاقتصاد التونسي وخلال السنوات الثلاث التي عقبت جائحة الكوفيد وتداعيتها على الاقتصاد لم يبلغ بعد ارقام ما قبل الوباء اي ارقام 2019 ولم يبلغ حجم الناتج المحلي المسجل سنتها، بل هو في منحى تنازلي.
فدوامة النمو الهش الذي وقع فيها الاقتصاد التونسي خلال السنوات العشر الفارطة، انتقل اليوم الى حالة الانكماش التي كان من الممكن تجاوزها باتباع خيارات سياسية تحفيزية، غير التي انتهجتها الحكومة في قانوني ماليتها لسنتي 2023 و2024 واللذين اتسما بارتفاع الضغط الجبائي وارتفاع الحاجة الى لاقتراض الداخلي وتقلص ميزانية الاستثمار العمومي.
خيارات دفعت بالاقتصاد التونسي الى مرحلة عنوانها الابرز تراجع الاستهلاك والاستثمار وذلك وفق الاحصائيات الرسمية الاخيرة، وهذا سيكون بمثابة كرة الثلج التي تكبر كلما تدحرجت، اي ان خطر تواصل تراجع الطلب الداخلي قائم ما لم يقع تدارك الامر وخاصة مع غياب الاجراءات التحفيزية للاقتصاد في قانون مالية 2024 وتخفيف الضغط الجبائي لتشجيع الاستهلاك والانتاج.
واذا كان الاقتصاد التونسي من منظور السلطة اقتصادا موجها للتصدير، اي ان الخطر عليه لا يكمن في تراجع الاستهلاك الداخلي او الاستثمار بل في تراجع الطلب العالمي، فاننا اليوم امام مؤشرات تحذر من هذه الفرضية جراء الوضعين الدولي والاقليمي وارتفاع الاسعار وتكاليف الشحن، وهو مما يعنى ان الوضع قد يكون اصعب واكثر تعقيدا جراء تقاطع امرين، تراجع الطلب الداخلي وتراجع الطلب الخارجي.
وضعية سيكون انعكاسها المباشر على المشهد بتراجع العائدات المالية للحكومة مما قد يرفع من حجم العجز ومن الحاجة الى الاقتراض لسد العجز، وهذا يؤدي بدوره الى خيارين اما الاقتراض الداخلي والمخاطرة بمفاقمة الازمة التي نتجت جراء هذا النهج من السياسات، او البحث عن اتفاق مع صندوق النقد الدولي لفتح ابواب الاقتراض الخارجي، هذا اذا ارادت الحكومة تجنب اتباع سياسة تقشف ستقود بدورها الى احتدام الازمة ودفع الاقتصاد الى الركود لا الانكماش.
وضعية صعبة جدا ومعقدة تجعل الحكومة وكل الفاعلين الاقتصادين في البلاد كمن يمشي في حقل الغام ويرفع على كتفيه أثقالا تؤثر على توازن خطواته، وتجعل قطع كل خطوة خطرا وجوديا، وتجعل من تحديد الوجهة الاسلم والآمنة ضربا من التنجيم الذي سيقع في الخطإ ايا كانت الاجابة، وبالتالي التقشف أو الاقتراض أو رفع نسق الانفاق العمومي لتحفيز الاستهلاك والاستمثار لن تكون خيارات سهلة امام الحكومة لانقاذ الاقتصاد طالما ان المناخ العام والسياسي لا يحفزان على الاستثمار.