سهلة لأنها تهم حياة الناس في مختلف النشاطات من العامل اليومي الى صاحب المتجر الصغير الى المجامع الكبرى، ثم لا يوجد أحد خارج بالكلية من الدورة الاقتصادية مادمنا كلنا مستهلكين ندفع على الاقل الضرائب غير المباشرة ونستهلك مختلف اصناف المنتوجات والخدمات .. والاقتصاد يصبح مسألة معقدة عندما يتعلق الأمر بالتقييمات الكلية وتكميم (la quantification) المعطيات الخبرية (emiriques) ونمذجة التصرفات الاقتصادية (la modélisation) فالاقتصاد هنا يصبح علما قائم الذات له قواعد ومناهج وتقنيات يستغلق فهمها على غير الملمين بها..ولكن حتى في هذه الوضعية هنالك معطيات عامة يمكن ان تكون متاحة للجميع وهي عادة ما تكون موضوعا أساسيا للنقاش في الفضاء العمومي ..
لا يمكن مقاربة اقتصاد ما دون فهم أهم معطياته الكمية (نسب النمو والبطالة والادخار والاستثمار والتداين والتضخم وادماج الافراد واندماج المنتوج النهائي وانتاجية العوامل من عمل ورأس مال وتجديد تكنولوجي وخدمات لوجستية ..).
ونحن نعلم جيدا أن رقما واحدا او أرقاما قليلة لا تعني شيئا في حد ذاتها ما لم توضع في سياق تفهمي عام فنسبة نمو بـ%3 مثلا تعد انجازا كبيرا في جلّ الدول الاوروبية وتعد كارثة وطنية في الصين ودون المأمول في تونس.
هنالك اليوم في تونس بعض الارقام الايجابية اذا ما اخذت بصفة منعزلة فالتضخم في تراجع مستمر اذ بلغ في شهر جانفي 2014 نسبة %7.8 بعد ان كان في حدود %10.4 منذ سنة فقط وهذا لا يعني بالطبع ان الاسعار قد تراجعت فقط بل أن سرعة ارتفاعها قد انخفضت قليلا كما ان عجز ميزاننا التجاري في موفى السنة الفارطة قد تحسن كثيرا اذ بلغ 17.1 مليار دينار مقابل 25.2 مليار دينار سنة 2022 وهذا ما انعكس ايجابيا على الميزان الجاري وعلى ميزان الدفوعات ايضا كما ان اضطرارنا للتقليص الفعلي للاقتراض الخارجي للسنة الثانية على التوالي (على عكس ما تفترضه ميزانيتا 2023 و2024) قد حدّ من تفاقم مديونية البلاد وسوف نرى آثاره في السنوات القادمة بتقلص خدمة الدين الخارجي للبلاد.
ولكن لو نضع كل هذه الارقام – وهي ايجابية – على محك السؤال الرئيسي نكون قد قدمنا صورة مشوهة عن الوضع العام ،السؤال هو: هل نحن بصدد الخروج من الازمة الاقتصادية اي خلق النمو والحد من البطالة ام اننا نجابه انفلاتات المالية العمومية بإجراءات تدفع باقتصادنا الى المناطق الخطرة للركود ؟
بصفة أوضح لو تم التخفيض من عجز ميزاننا التجاري نتيجة تطور كبير لنسق انتاجنا وتصديرنا لكان ذلك ممتازا للغاية اما عندما يتم هذا نتيجة تراجع توريد المواد الاولية والمواد نصف المصنعة بنسبة %7.3 بالأسعار الجارية (اي ان التراجع الحقيقي في حدود %15) فذلك يعني أن صناعتنا تعيش انكماشا فعليا سيتفاقم في الاشهر والسنوات القادمة وعندما نعلم أن قاطرة التصدير عندنا هي الصناعات المعملية وخاصة الصناعات الكهربائية والميكانيكية والالكترونية وكذلك النسيج، اذ أن تراجعها سيؤدي حتما الى النمو الهش اي الى خلق البطالة والفقر وندخل حينها في دوامة مفرغة سلبية .
بعد حوالي أسبوع سيصدر المعهد الوطني للإحصاء نشريتين ثلاثيتين هامتين للغاية تتعلق الاولى بالنمو الاقتصادي للثلاثي الاخير من السنة المنقضية وتتعلق الثانية بالتشغيل والبطالة لنفس الفترة.
تتوقع الوثائق الرسمية المرافقة لقانون المالية الحالي تحقيق نسبة %0.9 على امتداد كامل سنة 2023 بينما راهن رئيس الحكومة امام البرلمان على %1.2 ويبدو ان توقعات وزارة المالية هي الاكثر واقعية اذ قد نكون دون هذه النسبة (%0.9) بقليل وإذا اضفنا هذا الى كل ما سبق مع تفاقم الاقتراض الداخلي والارتفاع النسبي للضغط الجبائي نكون قد عبدنا الطريق امام استمرار النمو الهش هذا إذا لم نقترب من وضع الانكماش، وهكذا تكون الارقام الايجابية التي اشرنا اليها في البداية كالشجرة التي تخفي الغابة.
البلاد تحتاج الى انعاش فوري وفعلي للدورة الاقتصادية لكننا لا نرى الممهدات الأساسية لذلك في السياسات العمومية بل السعي فقط إلى المحافظة على التوازنات المالية للدولة وذلك سعي محمود لكنه لا يمكن ان يكون غاية في حدّ ذاته