نحن والنهضة والجبهة الداخلية والوحدة الوطنية

لا يتمثل التناول السليم للمواضيع الوطنية الخطيرة لا في شيطنة النهضة و لا كذلك في شيطنة من ينتقدونها ويحترزون ويتوجسون منها. لأننا في قلب مرحلة دقيقة تتسم بالانتشار العشوائي للإسلام السياسي، بملل ونحل لا تحصى و لا تعد، وبمليشيات وعصابات قتالية مدمرة، وبدعم رهيب

من المال الخليجي وأجهزته الإعلامية الجبارة منذ أكثر من ثلاثين سنة، وبتداخل وتشابك مع مصالح دول عظمى من خارج المنطقة ودول لا يستهان بها مثل إيران وتركيا من داخلها، تناور كل تلك الدول يوميا للتأثير المباشر على مجرى الأمور حسب مصالحها القومية. ومع حلول الربيع التونسي واستنساخه بصفة عشوائية، تحول ما سمي بالربيع العربي إلى كوارث في ليبيا وسوريا، إضافة إلى أخطاء المرحوم صدام حسين الفادحة، الذي بمحاولته ضم الكويت إلى العراق بالعنف أعطى هدية ثمينة لأمريكا لبداية الاشتغال على إنهاء الدولة العراقية وتفكيكها خدمة لمصالح إسرائيل وسعيا إلى التحكم الاستراتيجي في الطاقة. و هو ما يجعل التساؤل والانشغال بالمستقبل أمرا مشروعا، لا يحل بالمواقف المحتشمة والتمسيح على أي كان وإنما بالصراحة الكاملة.

و لا شك أن مسألة تطوير الإسلام السياسي نحو التأقلم مع الديمقراطية طرحت منذ مدة طويلة وبالخصوص من طرف أمريكا والغرب منذ 11 سبتمبر 2001. وفي هذا الإطار تزعمت حركة النهضة التونسية مبادرات سياسية كانت تريد من خلالها التجاوب مع الطلب الغربي لبناء تيار إسلام سياسي ‹معتدل›. كما أن في هذا الإطار بالذات تكثفت جهود قوى عظمى أجنبية و أطراف محلية تونسية لجر جزء من الحركة الديمقراطية التونسية من المنتمين إلى فصائل من اليسار والقومية العربية نحو الدخول في تحالف استراتيجي مع النهضة لتغيير الحكم في تونس سنة 2007 عن طريق ما سموه ‹حركة 18 أكتوبر› والتي أصبح الكثير اليوم يخجل من التذكير بها لأنها ستحرجه في مواقفه الراهنة من النهضة. والمهم في هذا الأمر يتمثل في فهم المسلك العام لمسار النهضة حتى ندرك جماعيا ومن منظور المصلحة الوطنية المشتركة أي مسافات قطعتها أو لم تقطعها أصلا وماذا ‹تبقى لها› أن تقوم به حتى تحرز على المصداقية الضرورية حول سلامة تمشيها وخياراتها واستراتيجيتها، وذلك لسبب بسيط وهو أن أمر النهضة ليس شأنا داخليا لها وإنما يهم المجتمع بأكمله، لأن هذا الحزب يتمتع بمساندة عدد هام من الأنصار و الناخبين، مما جعله منذ الثورة دائما في السلطة، ولو بأشكال وموازين قوى مختلفة.

و لا نحتاج إلى ضلوع كبير في فنون التحليل لكي نفهم أن النهضة مقبلة على مخاضات عسيرة وامتحانات صعبة. وينبني هذا التشخيص على أمرين، أولا المسافة الفكرية والسياسية والعقائدية والوجدانية الشاسعة التي تفصل نقطة انطلاقها عن نقطة الوصول التي تصبو إليها، وثانيا البون الهائل بين المنظرين للانتقال والقواعد، من الناحية الحزبية الداخلية، وخارجيا متانة الأوثقة والارتباطات الدولية والشبكاتية الكثيفة التي تشد النهضة إلى واقع منشأها وتطورها بجميع أنواع وأشكال الصداقات والتحالفات والالتزامات. وهي كلها عناصر على غاية من الجدية يجب أن تساعد النهضة على أن تتفهم التساؤل المشروع في شأنها ولا تتطير منه، حيث يعبر في مجمله وباستثناء بعض جوانبه غير الجدية عن انشغال حقيقي وتخوفات شرعية وليست اعتباطية. بالإضافة إلى كل ذلك وربما الأهم من كل ذلك أن التونسيين عاشوا مع النهضة تجربة واقع ملموس وليس نظريا، صحيح أنها آلت في النهاية إلى تطور نوعي في اتجاه التوافق الوطني والدستور المدني والانتخابات الديمقراطية، لكن الشعور السائد بالنسبة للتونسيين هو أن كل ذلك لم يأت بتلقائية وقناعات من النهضة وإنما نتيجة اليقظة المستمرة و الضغط المستدام. كما أن جزءا هاما من الرأي العام التونسي يعتبر أن النهضة لم تتخذ علنيا أي مسافة مع تجربة الترويكا بل تسعى إلى وضع كل ذلك على ظهر صعوبات الانتقال هروبا من تحديد المسؤوليات، و مطالبة النهضة بالصراحة في خصوص تجربة الترويكا ليس بغاية التهم والتشفي وإنما لاستخلاص الدروس والاطمئنان على المستقبل.

و بناء عما سبق وبالتلخيص الشديد في خصوص طبيعة وتطورات النهضة وعلاقة ذلك بالمسار الديمقراطي التونسي، تأتي الاستنتاجات التالية. أولا نهضة 2011 و2012 و2013 تختلف تماما عن نهضة 2014 و2015 و2016، وهي نتيجة بالإمكان الاستدلال عليها بكل الطرق الموضوعية المعلوماتية والتحليلية، وبالتالي فإن الاستسهال في توصيف الأمور بالتنكر الكامل للواقع غير مفيد. ثانيا، حركة النهضة لها كثير من الارتباطات المريبة التي أثرت على قراراتها خلال الثلاث سنوات الأولى من مسار ما بعد الثورة، لكن بعد ذلك سواء بقرار ذاتي أو بضغط داخلي وخارجي أو بكل ذلك معا، اتخذت الحركة قرارات قطيعة مع أطراف خطيرة مثل أنصار الشريعة من خلال تصنيفهم بالإرهابيين.

ثالثا، النهضة لها تخوفات من مخاطر السطو على ناخبيها من طرف المزايدين عليها من أنصار المرزوقي وأمثالهم، وبالتالي فإنها تقوم بحسابات دقيقة قبل أي قرار تغيير في خصوص مرجعياتها، حيث يتداخل لديها بكثافة البعد الانتخابي و مستلزمات التطوير. رابعا، حركة النهضة لها تخوفات كبيرة أيضا من كل استغلال سياسي لأي محاولة ‹نقد ذاتي›، خاصة إذا ما تبين أن هناك مسؤولية مباشرة في الاغتيالات والرش والهجوم على السفارة وتهريب أبو عياض وغيرها، وبالتالي قد تسعى إلى الاطمئنان مسبقا على أن ما يمكن أن تقدمه مثلا من خطوات لكشف الحقيقة على الاغتيالات سيحسب لها كمساهمة في المصالحة الوطنية وليس كضريبة سياسية وانتخابية. خامسا، فيما يخص العمليات الإرهابية، على الأقل من 2013 إلى اليوم، عبرت النهضة بكل وضوح وفي كل مناسبة على أنها، كبقية الشعب التونسي، في حرب مفتوحة عليه، وبالتالي لا بد أن تِؤخذ المسألة عن جد في خصوص الجبهة الداخلية والوحدة الوطنية ولا نتهاون في الرصد المضبوط لمن هو متعاطف مع الإرهاب ومن يعتبر نفسه في حرب معه. سابعا، في أمر الأبعاد الدولية للإرهاب، فإن النهضة على مواقف خاصة بها، متعلقة بارتباطاتها القديمة، بما يؤثر على كيفية تناولها لتلك المسائل، كما يتجلى ذلك من خلال موقفها من حكومة طرابلس، الذي لا يتطابق مع موقف الدبلوماسية التونسية على أن تلك الحكومة شأن ليبي، في حين أن هناك تعاطف خاص من طرف النهضة مع تلك الحكومة، تجد الحركة صعوبات كبيرة في إخفائه.

بالإضافة لما سبق هناك عنصر سياسي جديد، يتمثل في انقسامات نداء تونس، التي بررها البعض بمخاطر الاقتراب المفرط من النهضة فكانت نتيجة الانقسام أن أصبحت للنهضة الكتلة البرلمانية الأولى، وهو دليل على الذكاء الكبير و البعد الاستراتيجي لدعاة وممارسي الانقسامات، التي تحولت على إثرها ‹الحركة› إلى قلب رحى المشهد السياسي التونسي، تتعامل مباشرة مع رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والأطراف الخارجية، وكأنها عادت إلى وضع 2011 - 2012 - 2013. أي أن أطرافا من التيار الديمقراطي - الحداثي - المدني و التقدمي، بعد ما دمرت مواقع مثل التي تحصل عليها نداء تونس نتيجة عناء سياسي مرير، دخلت في تجاذبات مع النهضة، لا فقط على أساس مغالطات فيما يخص مسألة التشارك في الحكم - من تلك المغالطات أن حكومة الصيد الأولى بدون نهضة نادت الجبهة الشعبية والنهضة وآفاق تونس بإسقاطها قبل أن تولد - ولكن أيضا بميزان قوى وقع العمل على تخريبه. أي أنه حتى لو كانت للنهضة نية في اتخاذ مسافات مطمئنة من تجربة الترويكا فإن التطورات الراهنة لا تدفع بها نحو مثل ذلك الخيار.

ومن هنا فإن مسألة الجبهة الداخلية والوحدة الوطنية المعطلة أساسا نتيجة احترازات من حركة النهضة يجب تناولها بأقل ما يمكن من التبسيط، عبر من جهة أولى اعتبار أن تونسة الاسلام السياسي مهمة ملقاة على الجميع، لا تعالج لا بالقفز على الواقع ولا بالشيطنة و لا بالعقليات الإقصائية. ثانيا وهذا موجه إلى حركة النهضة، فإن مطالب التطمينات فيما يخص دروس تجربة الحكم والمرجعيات والإرتباطات مطالب عقلانية ومشروعة لا يجوز شيطنتها كذلك بل تتطلب التعامل الطبيعي معها، كشروط توضيح لعناصر المصير والعيش المشترك، كل طرف له حق التأكد من الضمانات والالتزامات في خصوصها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115