وقد ورثت العديد منهن هذه الحرفة عن جداتهن، وهنّ اليوم يواجهن مصاعب جمّة خاصة أنهن يعملن في ظروف بدائية ولكنهن يقاومن كل الصعوبات بإصرار وتحد ودون كلل من أجل تأمين القوت اليومي لعائلاتهن . وتعدّ صناعة الفخار من الحرف اليدوية الهامة في تونس والتي تعتبر جزءا من تاريخ وحضارة البلاد وموروثها الثقافي.
وقد افتتح الجزء الأول من مشروع النساء الحرفيات بحي هلال سنة 2015 حيث تمّ تسليم محال الورشات للعاملات بالشراكة بين مؤسسات الدولة التونسية والمجتمع المدني مثل المعهد العربي لحقوق الانسان وولاية تونس وبلدية تونس ووزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن وجمعية مساندة بحي هلال .
مسيرة كفاح
في القرية الحرفية لصناعة الفخار في حي هلال تنهمك لطيفة (55) عاما من متساكني حي هلال، في عجن الطين لتحويله لاحقا الى أوعية فخارية .وتسرد في حديثها لـ«المغرب» قصتها مع هذه الحرفة التي امتهنتها وهي في السابعة عشرة من عمرها وتوارثتها عن والدتها فتقول محدثتنا :«فتحت عيني منذ صغري على مشهد والدتي وهي تصنع الأواني الفخارية، فتعلمت منها هذه الحرفة. وقد توارثتها والدتي أيضا عن والدتها» وتتابع: «هذه المهنة هي مصدر رزقنا الوحيد وهنا تستفيد حوالي 26 عائلة في هذه القرية الحرفية من بيع المنتوجات الطينية مثل الطابون والكانون». وتضيف محدثتنا: «أكثر من 35 عاما قضيتها وانا أصنع الفخار لأؤمّن قوت أولادي ومستلزماتهم الحياتية». وتطالب لطيفة بمساعدة الحرفيات في إيجاد أسواق لترويج منتجاتهن بعيدا عن المحتكرين الذين يشترون منهن السلع بأرخص الأسعار». وقالت: «نحن نعمل لأيام طويلة وبظروف صعبة سواء تحت الحرّ الشديد في الصيف او في البرد أثناء فصل الشتاء ونكابد من أجل أن نصنع هذه «الكوانين الفخارية» التي يشتريها منا المحتكرون بأسعار زهيدة لبيعها لاحقا بأضعاف ثمنها».
صالحة عياري (80) عاما ويُطلق عليها لقب «عميدة الحرفيات» لأنها الأكبر سنا بينهن وقد توارثت هذه الحرفة عن اجدادها وهي تعجن بأياد محترفة الطين وتطوعه لتحوله الى فخار يزّين منازل التونسيين. وقالت لـ«المغرب» أنها تريد اسماع صوتها وان يتذكرها المسؤولون لتحسين أوضاعها وأوضاع باقي النساء الحرفيات سواء من الناحية الاقتصادية او الاجتماعية، وكذلك لإتمام الجزء الثاني من المشروع لتحسين ظروف عملهن الشاقة في هذه القرية. وقالت: «نحن نقوم برحي الطين يدويا وهذا يسبب لنا مشقة وعناء وتعب وأمراض بدنية عديدة ثم نقوم بعملية تسخينه على الحطب بطريقة بدائية ودون أفران متطورة لذلك نحن نطالب باستكمال مراحل هذا المشروع عبر تأمين آلات رحي متطورة وأفرانا لتسخين الطين والفخار». وتتابع بالقول: «المشكلة ان المسؤولين لا يتذكروننا الا في المناسبات، نحن لا نريد من يأتي ليلتقط معنا الصور التذكارية بل نريد من يدافع عنا ويؤمّن لنا حقوقنا ويساعدنا في تسويق منتجاتنا الفخارية بأسعار جيدة لتحسين وضعيتنا. فنحن نعمل في ظروف بدائية وهذا يسبّب لنا الكثير من الأمراض الجلدية والبدنية في ظل ظروف عمل صعبة».
تحديات وصعوبات
تقول درصاف اليعقوبي رئيسة جمعية مساندة حي هلال لـ«المغرب» انه بعد جهود حثيثة من جمعية مساندة ومن المعهد العربي لحقوق الانسان تمّ التوصل الى تدشين هذه القرية الحرفية قبل سنوات بدعم من البلدية والولاية ووزارة التنمية . وقالت ان مشكلة هؤلاء الحرفيات لم تحل بعد فقد تبيّن ان هذه المحال والورشات من الصعب العمل بها صيفا تحت الحرّ الشديد وتتطلب تأمين وسائل التبريد وإدخال الكهرباء». وتتابع: «تعدّ صناعة الفخار من الصناعات الحرفية والتقليدية التراثية في تونس ومن المهم دعم هؤلاء النسوة المهمشّات لاستمرار هذه الحرفة كتراث ثقافي تونسي مادي وتثمينه من خلال دعمهن». وأكدت محدثتنا ان هؤلاء النسوة كنا يعملن في خيم ومحال بدائية قبل تدشين هذه القرية وقد صدر قرار بهدم الخيم والمحال العشوائية كان ذلك سيهدد قوت عشرات العائلات. مما دفع جمعية مساندة وبدعم من المعهد العربي لحقوق الانسان للتحرك لدى السلط المعنية مثل بلدية تونس من أجل أولا إيقاف قرار الهدم ومن ثم العمل على دعم هؤلاء النساء المهمشّات من خلال بناء محلات نظيفة تراعي أبسط شروط العمل والتشغيلّ. وتابعت «قدمنا ملفا خاصا لدى البلدية سنة 2015 باعتبار انها قضية اجتماعية بالنظر الى ان هؤلاء النسوة لديهن ظروف حياتية صعبة، وأيضا انطلاقا من كون انها قضية ثقافية فمن المهم دعم هذه القرية الحرفية وتطويرها لحماية هذا التراث الثقافي التونسي من الاندثار». وقالت اليعقوبي ان جمعية مساندة أمنّت لهؤلاء النسوة عديد الورشات التدريبية بالتعاون مع المعهد العربي لحقوق الانسان لتطوير عملهن وعدم الاقتصار فقط على صناعة «الكانون» بل أيضا ليشمل عملهن صناعة الأواني الفخارية للزينة لتدرّ عليهن ربحا أفضل. وقالت انه من المهم اليوم الوقوف الى جانب هؤلاء النسوة وايصال صوتهن، فهنّ يحملن قضية هامة ويقمن بعمل نضالي هام لتأمين احتياجات عائلاتهن. وقالت: «العديد من هؤلاء الحرفيات أوصلن أولادهن الى أعلى المراتب العلمية من خلال صناعة الفخار».
سياسات تنموية وفعالة للجميع
رئيس المعهد العربي لحقوق الانسان عبد الباسط بن حسن قال لـ«المغرب» ان هؤلاء الحرفيات ينتمين الى فئة اجتماعية تعاني -مثل الكثير من الفئات الأخرى- من التهميش والإقصاء وصعوبة الوصول الى الحقوق، وخاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويضيف بالقول: «هنّ يعملن في ظروف عمل صعبة جدا مع عدم القدرة على الوصول الى المسالك الجيدة لتوزيع منتجاتهن . وكذلك هناك عدم وضوح في السياسات الاقتصادية التي يمكن ان تمكنهنّ من الانخراط بشكل كامل في الدورة الاقتصادية» . ويضيف: «نحن نعرف انه في تونس هناك نسب فقر مرتفعة وكذلك هناك غياب للسياسات في مجال التشغيل التي يمكن ان تعطي أولا الحق في العمل اللائق وكذلك توفّر الظروف من أجل نماء شخصية الانسان واحساسه بالكرامة . وقال :» الحقيقة، ان المعهد العربي لحقوق الانسان مع عدد من منظمات المجتمع المدني خاصة منظمة مساندة بحي هلال وعدد من الإطارات الرسمية يعملون منذ مدة على تقريب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الأحياء الفقيرة والمهمشة وهناك محاولة لجعل هذه الفئات تشعر أكثر بانتمائها الى الوطن وبأنها جزء من هذا الواقع». وتابع بالقول: «نحن نعمل أولا على اقناع السلطات من أجل تخصيص حيز من سياستها لهذه الفئة وبالفعل وقع تطوير تدريجي في ظروف العمل لهذه الفئات وكذلك تمكينهن من بعض الورشات التدريبية من أجل تطوير مهاراتهن في هذا المجال بدعم من المعهد وبمشاركة منه. وكذلك هناك برامج هامة جدا ننفذ جزءا منها مع وزارة الشؤون الاجتماعية وهو التعلم مدى الحياة وتعليم عدد كبير من الحرفيات القراءة والكتابة والحساب وكذلك تمكينهن من المهارات الحياتية في حلّ المشاكل وفي طريقة التواصل الاجتماعي لمواجهة المصاعب وكيفية العمل من أجل تطوير القدرات». ويضيف: «هو باعتقادي مشروع ناجح جدا لانه يربط الحق في التشغيل الدائم مع الحق في التعلم مدى الحياة . ولكن في الحقيقة ما يتطلبه الوضع هو فعلا ان تعتبر هذه الفئة جزءا من المجتمع وان تكون هناك سياسات دائمة ومستدامة من أجل الاهتمام بهذه الفئات المهمشّة وفئات أخرى اجتماعية في تونس تعاني من عدم الوصول الى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وغيرها».
وأوضح عبد الباسط بن حسن: «المعهد يريد أن يبني نماذج لاستدامة السياسات واستدامة المشاريع من أجل أن نصل الى تحقيق التنمية الانسانية المستدامة. ومداخلنا هي الحق في التعليم والحق في التشغيل اللائق من أجل ان تكون هناك سياسات تنموية ومستدامة وفعّالة تشمل الجميع» .
نحو اعلام حقوقي
أما عن كيفية جعل حضور قضايا هؤلاء النساء المهمشات دائما في الاعلام من أجل إيصال صوتهن وان لا يكون حضورا مناسباتيا يجيب محدثنا: «نحن حاولنا من خلال إذاعة «السيدة» وهي إذاعة المعهد العربي لحقوق الانسان، على ان يكون هناك حضور دائم لقضايا ساكني وساكنات هذه الأحياء ومختلف القضايا التي تتعلق بحياتهم لإعطائهم صوتا وإمكانية للتعبير عن قضاياهم. ونبحث عن حلول من خلال الإذاعة لدى المسؤولين لتقديم نوع من الإعلام الذي يمكّن من تقديم معالجات وحلولا لقضاياهم. يوضح بالقول:«نحن نفتح امكانيات للنساء من أجل التعبير عن قضاياهن لدى مؤسسات إعلامية أخرى وليس فقط في «السيدة اف م» ونحاول ان ننجز هذا الحوار بين المسؤولين المحليين وبين هؤلاء النسوة».
وتلعب منظمات المجتمع المدني سواء في تونس أو في الخارج دورا كبير في دعم النضال من أجل اعلام حرّ ومستقل ونزيه يدافع عن حقوق النساء المهمشات وقضاياهن لإيصال صوتهن للرأي العام، على غرار صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية «UNDEF» ومنظمة «صحفيون من أجل حقوق الانسان» والتي أطلقت في تونس مؤخرا مشروعا يهدف الى تعزيز الاعلام المستقل في الوطن العربي لتحقيق حوكمة أفضل، وذلك من خلال تحسين بيئة العمل للصحفيين والدفع بحرية التعبير وحق النفاذ إلى المعلومة وتحسين قدرات الصحفيين والصحفيات لتغطية قضايا حقوق الانسان.
معركة الدفاع عن حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية والثقافية : النساء الحرفيات في حي هلال ...قصة صمود وكفاح بعيدا عن الأضواء
- بقلم روعة قاسم
- 12:16 30/05/2022
- 982 عدد المشاهدات
في القرية الحرفية بمنطقة «حي هلال» بتونس العاصمة، تنكبّ النساء الحرفيات على صناعة المنتجات الفخارية مثل «الكانون» و«الطابون».