غدا نهاية الآجال الدستورية للمصادقة على قانون مالية 2022: إلى أين نتجه وقد غاب النص والنقاش وغابت الموارد المالية ؟

ليست قوانين المالية في النظم الديمقراطية او الدكتاتورية مجرد نصوص او ارقام. بل هي خيارات وتوجهات كبرى للدولة تنعكس

بشكل مباشر على كل اطياف الشعب. لذلك عادة ما يمنح لها حيز من الوقت لمناقشة تفاصيلها وخطوطها العامة بهدف اشراك المواطنين في ادارة شأنهم العام ولو كان «شكليا» لدى الدكتاتوريات.

ليست الموازنة وتحديد ابواب الانفاق والاستثمار تفاصيل لا تمس الحياة اليومية للتونسيين. بل ان فيها حياتهم ومعاشهم، حاضرهم ومستقبلهم. لهذا يقع الحرص على معرفة مدى استجابة ابواب الموازنة للانتظارات. سواء للمستثمرين مع حزمة الامتيازات التي ستقدم لهم و اي انعكاسات فعلية لها على الاستثمار وخلق الثروة. او للمواطن البسيط الذي يتأثر بالخدمات العمومية التي تقدم له، اضافة الى معرفة حجم العبء الضريبي الذي سيسلط عليه.

للاسف الشديد وقع القطع مع ذلك في تونس في ظل اجراءات استثنائية، لم تقتصر على تجميع السلطات بيد رئيس الدولة، السلطة التنفيذية والتشريعية، بل اغلقت الفضاءات العامة وحاصرت النقاشات في القضايا المجتمعية ومنها قانون المالية 2022. قانون انقضى الثلث الاول من شهر ديسمبر الجاري، ولا دخان ابيض تصاعد من قصر قرطاج ليعلن عن الانتهاء من اعداد قانون مالية 2022 قبل الدخول في مرحلة التحكيم ثم حصول النقاش في المجلس الوزاري والمصادقة عليه ونشره في الرائد الرسمي.

تفاصيل ومراحل كان يفترض انها قد استكملت واننا على اعتاب ساعات قليلة من انتهاء عملية المصادقة على القانون بعد نقاشات تنطلق منذ منتصف اكتوبر، وفق التمشي الذي اقرّه دستور 2014 المعلق بامر رئاسي عدد 117 الصادر في 22 سبتمبر 2021.

امام هذه الوضعية حجبت كل المعطيات حتى الاولية منها بشان قانون المالية عن العموم، ووقعت الاستعانة بالتسريبات التي سرعان ما نفتها وزارة المالية في علاقة بمسودة مشروع قانون مالية 2022 التي جاءت في شكل فصول قانونية دون توجهات كبرى او خيارات واضحة، اضافة الى غياب كل الفرضيات الاساسية لصياغة اي مشروع قانون مالية.

كما ان كلّ ما تمنحه حكومة بودن ومن خلفها رئاسة الجمهورية تصريحات اعلامية جزء هام منها قيل خارج تونس، تقدم تصورات عن القانون المرتقب، وهي تصريحات عامة تستوجب اخضاعها الى تفكيك واعادة صياغة لفهم خيارات حكومة بودن والرئاسة في علاقة بقانون مالية 2022 وفلسفته. وهذا يؤدي بنا الى منطقة رمادية، وهو اقل ما توصف به لتجنب القول باننا في ما يشبه الكارثة، فالى حد اليوم لا وجود لمؤشر ولو عن وضع الحكومة التونسية لاية فرضيات اساسية لقانون ماليتها. اذ ان قانون المالية يقوم على عناصر ويخضع لتمش ينطلق من رسم فرضيات اساسية تشمل سعر برميل النفط وسعر الدينار ونسبة النمو المتوقعة ونسبة العجز في الميزانية اضافة الى نسبة التداين وحجمه من الموازنة العامة وحجم هذه الموازنة ومصادرها الاساسية، كل هذا لم يقع الانتهاء من صياغته والحال اننا على مشارف انتهاء سنة 2021 بما يعنى خطر الدخول للسنة الجديدة دون قانون مالية.
هذه العناصر التي يؤمل ان حكومة بودن قد صاغتها او رسمت توقعاتها بشأنها، هي جزء من قانون مالية 2022، الذي يفترض انه يقوم على تصورات وخيارات سياسة تحدد توجهات الدولة خلال السنة المالية القادمة وهل انها ستتجه للتقشف او للانفاق بشكل اكبر خاصة في الاستثمار والخدمات العمومية.
والاهم من كل ذلك الاجابة عن سؤال مباشر وصريح هل ستنطلق الاصلاحات الكبرى مع هذا القانون؟ وعن ماهية هذه الاصلاحات. هنا الاجابة للاسف لا يقع تقديمها للتونسيين بل توجه لـ«الخارج» وخير مثال لذلك ان رئيسة الحكومة نجلاء بودن اعلمت السفير الياباني في تونس لدى لقائهما بخطة الاصلاحات التي تتوجه اليها حكومتها.

خطة تحدث عنها الرئيس في لقاء جمعه بوزارء من حكومته وبمحافظ البنك المركزي الذي التقاه يوم الاثنين الفارط واعلمه ان «مقترحاته للخروج من الازمة لن تجد طريقا للتطبيق بسبب المحرضين ضد تونس».
لقاء كما باقي اللقاءات المتعلقة بالملف المالي والاقتصادي يقدم فيها خطابا سياسيا ويترك امر فرز ما له علاقة بالاقتصاد للمستمع الذي تفرض عليه عملية فهم ما بين السطور. ومنها فهم ازمة تعبئة موارد مزانية 2022 التي المح اليها الرئيس لمحافظ واعاد سببها الى المتامرين.
تعبئة يبدو انها تواجه تعثرات عدة، واهمها بالاساس مع صندوق النقد الدولي الذي يربط بين الوصول الى اتفاق ممدد مع تونس والاصلاحات الكبرى التي تشمل اساسا التحكم في كتلة الاجور. بما يعنى ذلك وقف الانتدابات وتجميد الزيادات، اضافة الى التحكم في نفقات الدعم، وثالثا اصلاح المؤسسات العمومية وفتح المبادرة الاقتصادية اي انهاء عصر اقتصاد الريع الخاضع لنفوذ مجموعة صغيرة وفتح السوق للمبادرين بتقليص القيود المفروضة على السوق.

اصلاحات تحدث عنها الرئيس ورئيسة الحكومة ووزير الاقتصاد بشكل مقتضب وتلميحا، دون القول الصريح بمضمونها ولا باهميتها للبلاد ومفصليتها في مسار الخروج من الازمة المالية. التي ستكون على حساب التونسيين. الذين سيتحملون تبعات هذه الاصلاحات و ثقلها الذي ستشعر به الطبقات المتوسطة والهشة بالأساس باعتبار ان الاصلاحات ستطال صناديق الدعم والصناديق الاجتماعية التي سينتقل تأثيرها الى صندوق التامين على المرض والتغطية الصحية اضافة الى المؤسسات العمومية .

لكن ورغم اهمية فتح النقاش وكشف المعطيات للتونسيين تمارس الدولة ومؤسساتها التنفيذية سياسة مغايرة. فهي تقدم تصريحات تعلن فيها ان نواياها عدم تأثر الهشة بالاصلاحات دون كشف كيف سيكون ذلك. وتقدم تصريحات بان الوضع المالي لايزال بخير وان البلاد لها من الثروات الكثير، وان كانت هذه الثروات نهبت وهربت الى الخارج، لكنها لا تتحدث عن تعثر عملية تعبئة موارد مالية، حتى تلك التي وقع التسويق لها في خطابات الرئيس واشارته المتكررة بان تونس ستجد الدعم من اشقائها.

دعم تحدث عنه الرئيس وسوق له في بداية الفترة الاستثنائية ولاحقا تحدث عنه مسؤولون في البنك المركزي قبل ان يقع غلق الملف والصمت الكلي، دون الكشف عن مصير هذه الوعود او القول بان تونس لم تتحصل على مليم وحيد من اي دولة صديقة او شقيقة. او القول صراحة ان البلاد في مرمى تهديد جدي بالافلاس، ان تعثرت عملية تعبئة موارد مالية لتمويل نفقات ميزيانية 2022 ناهيك عن سد العجز في تعبئة موارد مالية لمزانية 2021 المقدرة بـ1.9 مليار دولار وهو ما يعادل 5.6 مليار دينار تونسي.

وضع مالي يجعل البلاد رهينة خيار وحيد وهو الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وهذا يعنى الاستجابة لشروطه، أو مواجهة الافلاس والعجز عن سداد ديونها. وهو خطر لن تنقذنا منه الدول الصديقة والشقيقة التي سوق في السابق عى انها ستقدم دعما سخيا لتونس ولكن هذا تبخر سريعا في ظل استفحال «الخطابة» والمناكفات السياسية التي اهملت الملف المالي والاقتصادي فكانت النتيجة اننا في حالة عجز عن توفير موارد مالية للميزانية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115