أحمد المستيري رحيل قمة شامخة

غادرنا أحمد المستيري في سن الخامسة والتسعين من عمره بعد حياة زاخرة بالنضال ضد الاستعمار أولا ومن أجل بناء دولة الاستقلال ثانيا والديمقراطية ثالثا .

هذا التوصيف لا يندرج ضمن الحكمة النبوية «اذكروا موتاكم بخير» بل اعترافا بجميل رجل كاد أن يغير بصفة جدية وإيجابية مسار تاريخ تونس المعاصر ..
أحمد المستيري ينتمي الى جيل ناضل في شبابه المبكر ضد الاستعمار يوم لم يكن الكثيرون يؤمنون بأنه بإمكان تونس ان تتحرر من الإمبراطورية الفرنسية وهذا الجيل هو الذي أسس به ومعه الزعيم الحبيب بورقيبة دولة الاستقلال وسيحفظ التاريخ أن المستيري كان وزيرا للعدل في حكومة بورقيبة الأولى وسنه آنذاك ثلاثين سنة وكان له شرف الإشراف على إعداده مجلة الأحوال الشخصية التي ارادها بورقيبة أول وأهم إصلاح جذري لتونس المستقلة رغم مخاطر الاقتتال الداخلي وتواصل الوجود العسكري الفرنسي وصعوبة إرساء اللبنات الأولى لمؤسسات تونس المستقلة ..
بعد عشر سنوات وبعد مسؤوليات حكومية ومناصب في سفارات مهمة بالخارج تقلد المستيري وزارة الدفاع وسعى منذ تلك الفترة مع رفاق عديدين إلى تحويل الحزب الاشتراكي الدستوري إلى حزب ديمقراطي يقبل بالتعددية داخله ولم يتوان عن الاستقالة من منصبه في 1968 وفي الإعلان عن رفضه لتمشي الحكومة ثم عاد في سنة 1970 وكان يعتقد أن طي صفحة التعاضد بإيجابياتها وسلبياتها سيسمح بالمنعرج الديمقراطي ولو على مراحل ..ومرة أخرى طغت المصالح والزبونية على هذا الحلم الجديد ..

بعد أن يئس من إصلاح الحزب الحاكم من داخله سعى احمد المستيري الى إصلاح النظام السياسي من موقع المعارضة فكانت الدعوة الشهيرة في الذكرى العشرين للاستقلال التي أمضاها احمد المستيري وعدد من رفاقه في 20 مارس 1976 وطالبوا فيها بضرورة الانفتاح الديمقراطي والتعددية وصون الحريات ونشأت في هذه المناخات الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سنة 1976 وجريدة «الرأي» لمديرها المغفور له حسيب بن عمار في ديسمبر 1977 ثم أسس احمد المستيري حركة الديمقراطيين الاشتراكيين في 10 جوان 1978. وبعد ثلاث سنوات فقط خاضت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين الانتخابات التشريعية بعد ان أبدى نظام بورقيبة زمن الراحل محمد المزالي استعداده للقبول بتعددية حزبية ما، وفازت الحركة بالانتخابات ولكن تم تزوير النتائج بشكل مفضوح ومريع وضيع بورقيبة - رغم عظمته التي لا ينكرها احد - فرصة تاريخية على تونس للانتقال التدريجي والسلس نحو ديمقراطية عصرية .
لقد اعتقد احمد المستيري ان فرصة البناء الديمقراطي قد أتيحت من جديد بعد وصول زين العابدين بن علي إلى الحكم في 7 نوفمبر 1987 ولكن سرعان ما تبين أنه إزاء سراب وخديعة فغادر الحزب الذي أسسه والحياة السياسية بعيد «انتخابات» 1989.
لا نريد ان نقول بان مسيرة الراحل الكبير خالية من الأخطاء ولكن سيحفظ التاريخ في ذاكرته هذا الجهد الجبار الذي بذله المستيري وثلة من رفاقه من أجل تونس حرة وعصرية وديمقراطية ولكن الأهواء والمصالح وضيق الأفق منع البلاد من اختصار جذري للوقت وللجهد.
وسيبقى الأثر الأكبر لنضال المستيري ورفاقه مهما تشعبت بهم السبل -فيما- بعد هو غرس فكرة الديمقراطية في هذه التربة بعد محاولات سابقة ظلت جزئية أو محدودة وتربية أجيال من تيارات إيديولوجية مختلفة على ثقافة التعدد والتسامح والإيمان بتونس وبمستقبلها.
رحم الله فقيد الوطن والحرية

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115