إلى تصور وما وصف المشيشي للمهاجرين غير النظامين بالإرهابيين إلاّ خطأ في هذا السياق.
لم يكن خافيا على الحكومة التونسية ورئيسها هشام المشيشي ان دعوته لأداء زيارة عمل من قبل نظيريه في فرنسا وايطاليا لم تكن إلاّ إلاّ لمناقشة ملف اساسي وهو الهجرة غير النظامية التي تعتبر الدولتان الاوروبيتان انهما متضررتان منها بالأساس باعتبارهما المستقر النهائي لجل القادمين عبر البحر، وتبحثان عن الضغط على الحكومة التونسية لإيجاد حل يتضمن ترحيل المهاجرين.
معطى معلوم او يفترض انه كذلك. لمن يمسك بمقاليد الحكم في تونس. وعليه فان الزيارة لم تكن الملفات المطروحة فيها للنقاش مفاجئة او خارجة عن هذا وهو ما كان يستوجب ان تعد الدولة التونسية ملفها وتحدد استراتيجيتها في التفاوض مع الطرف المقابل، وهما هنا الدولة الفرنسية وحكومتها وايطاليا وحكومتها - التي الغيت زيارته إليها لإصابة وزير المالية وهو عضو في الوفد بالكوفيد-19.
غير ان العلم بالملفات التي ستكون موضوع النقاش يفترض بان تعد الحكومة ورئيسها لاستراتيجية التفاوض لتحقيق اكبر منفعة ممكنة لتونس لم يكن ما جد في الزيارة التي انتهت بتصريح لرئيس الحكومة لقناة فرنس24 الفرنسية موقفا إذجاء فيه وصف المهاجرين غير النظامين بالارهابيين، بقول المشيشي بلسانه «من يقول هجرة غير نظامية يقول ارهابا».
تصريح وان كان يكشف عن ضعف الجانب السياسي والدبلوماسي لرئيس الحكومة التونسية فانه يكشف اكثر عن ما بلغته تونس من وهن وعجز عن حماية مصالحها وحسن ادارة ملفاتها اثناء التفاوض، ضعف كان سمة ادارة الملفات الداخلية وقد انتقل الآن ليصبح سمة لدبلوماسيتنا.
فالمشيشي الذي اراد ان يصور نفسه كرئيس حكومة قادر على الالتزام مع الشركاء باسم تونس وتنفيذ هذه الالتزامات ، كمحاولة لطمأنة فرنسا والاتحاد الاوروبي بأنه ممسك بملفاته وبمقاليد القصبة وأنه لاعب اساسي في المشهد العام التونسي. اخطأ حينما ظن انه بمبالغته في ابراز «تفهم» تونس لحساسية ملف المهاجرين غير النظامين بالنسبة للدول الاوروبية بان اسقط كل اوراقه بزلة لسان كان هدفها كسب ودّ الفرنسيين.
كسب للود جعل رئيس الحكومة يكرّر بشكل حرفي خطاب اليمين المتطرف الفرنسي والايطالي اللذين يضعان الهجرة غير النظامية والإرهاب في سلة واحدة. دون ان يكون مدركا لذلك لضعف الجانب السياسي لديه والذي ادى في النهاية الى ان يسقط بجملة واحد قدرة الدولة التونسية على تحقيق منافع لها في الملف.
فما اقدم عليه المشيشي عن بمثابة اعلان عن التنازل والقبول التام لترحيل المهاجرين غير النظاميين من فرنسا وايطاليا، عملية انطلقت منذ زيارة رئيس الدولة قيس سعيد وتعثره هو الاخر في ادارة الملف وتقديمه لهدايا للدول الاوروبية على حساب المصالح التونسيية.
مصالح كان ينبغي ان يقع الدفاع عنها والبحث عن تحقيقها اثناء التفاوض في هذا الملف، فما هو ثابت ان تونس ليست في وضع مريح يسمح لها برفض الترحيل الكلي وهي اقرت بقبولها للترحيل وفق اجراءات ولو لعدد قليل من المهاجرين، اي انها تراجعت خطوة قبل انطلاق التفاوض ومع انطلاقه تراجعت كليا.
فالجانب الفرنسي ومن خلفه الاوروبي سيرتكزان على هذا التصريح لتحديد طريقة إدارة التفاوض مع تونس التي ينظر اليها اليوم على انها في حالة ضعف ووهن دبلوماسي وسياسي لا بسبب أزماتها الاقتصادية والاجتماعية بل لضعف الثقافة السياسية والفطنة والتصور لدى الماسكين بمقاليد الحكم فيها.
فعوضا عن ربط ترحيل المهاجرين غير النظاميين بملفات التنمية والتعاون وقع حصرها في الجانب الأمني وهو ما يفقد تونس هامش التفاوض بما يسمح لها بان تجعل من معالجة الملف تتضمن تخصيص حافظة استثمارات قارة لتونس لمدة محدد من السنوات ضمن معالجة شاملة تحقق لتونس منفعة من بينها توفير استثمارات وخلق مواطن شغل.
حصر لملف الهجرة غير النظامية في الجانب الامني، ليس فقط ما يبرز ضعف ملكة التفاوض لدى الجانب التونسي حاليا بل عجز الجانب التونسي عن قراءة المشهد الاقليمي والدولي وعدم فهم لحاجة الدول الاوروبية لمعالجة ملف الهجرة والى اي مدى قد تذهب في تقديم تحفيزات وامتيازات للطرف المقابل لضمان تعاونه.
غياب يكشف عن ان الطبقة الحاكمة لتونس اليوم ممثلة في حكومة وحزامها السياسي الذي يضم النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة، لا تصور لهما لمصالح تونس وكيفية الدفاع عنهما، بل هم في اطار مناكفات الداخل وصراعاته التي انعكست سلبا على الدولة ومؤسستها وجعلتها في حالة وهن وضعف كلي عجزت معه عن صياغة تصور لسياستها الداخلية والخارجية.
ما كشفته زيارة رئيس الحكومة الى فرنسا ومن قبله رئيس الجمهورية هو ان الدولة التونسية بلغت بعد عشر سنوات من الثورة درجة من الضعف المخيف والمزعج لم يعد يمكن معه ان تستمر ادارة الاوضاع كما هي الان فاستمرارها لا يعنى الا تقدمنا بخطوات الى الانهيار.