التي تقودها التنسيقيات وشق رافض لها باعتبارها تهديد لوحدة الدولة وهيبتها. دون محاولة جدية لفهم هذه الظاهرة.
« تنسيقية » مصطلح تداوله التونسيون بكثرة مع احتدام الاحتجاجات المطلبية بولاية تطاوين وظهور تجمع للشباب المطالب بالشغل والتنمية اختار ان يتنظّم في «تنسيقية» عرفت لاحقا لدى جل التونسيين بانها « تنسيقية اعتصام الكامور» التي بات ينظر اليها على أنها «بدعة» حلت بالبلاد لتجسد ضعف الدولة وعدم قدرتها على بسط سلطانها.
في مسار الاحتجاجات بولاية تطاوين والكر والفر ببين المحتجين والسلطات تكونت الصورة الاولى عن التنسيقيات التي باتت تؤطر وتقود الاحتجاجات ومثلت شكلا للتنظّم الذاتي خارج الاطر التقليدية . احزاب او نقابات اساسا باعتبارها التنظيمات التي تحمل لواء المطلبية والدفاع عنها.
مجموعة تنظم في تنسيقية وتعين قادتها من المنسق العام لها والناطق باسمها وتتقاسم الادوار بينها في ظل هيكلية واضحة المعالم توزع الادوار والنفوذ على افرادها، هو ما التقطه التونسيون اضافة الى الصورة السلبية عن التنسيقيات على اعتبارها تحديا للدولة والاطر التقليدية للعمل السياسي أو النقابي.
صورة سلبية تعززت خلال السنوات الأربع-عمر الاحتجاجات في تطاوين الى غاية الانتهاء الى اتفاق نوفمبر الفارط- حجبت بشكل كلى حقيقة سابقة، والغضب المتصاعد من اعتماد المحتجين على احتلال مواقع الانتاج وغلقها وتعطيل سير بعض المؤسسات لإجبار الحكومة على التفاوض مما ساعد على ان تسقط من ذاكرة التونسيين هذه المعطيات السابقة.
اول ما اسقط من الذاكرة الجماعية للتونسيين وحل مكانه معطى مفاده ان تنسيقية الكامور هي الاولى من نوعها، وذلك ما جد في ولاية قفصة سنة 2012 من تنظم ذاتي في شكل مشابه لتنسيقية ، قادت بدورها احتجاجات تطالب بالتشغيل والتنمية واعتمدت على استراتيجية تعطيل الانتاج او تعطيل نقل الفسفاط لجلب الحكومة للتفاوض معها.
تجربة اتت ثمارها في 2012 وأسست بشكل بعدي لتكرارها في جزيرة قرقنة حيث تنظم الشباب المحتج في ما يشبه التنسيقية ايضا دون الذهاب بعيدا في توزيع الادوار والمسؤوليات. اذ ان التجربتين في قفصة او قرقنة كانتا البدايات لهذا الشكل الجديد من الاحتجاج القائم على ما يمكن اعتباره تكتيكا مشتركا وهو تعزيز شروط التفاوض عبر تحقيق نصر على الارض يتمثل اما في غلق الطريق او ايقاف الانتاج او الاعتصام في مواقع الانتاج وغيرها من الخيارات التي يقع اللجوء اليها لضمان موقع تفاوضي جيد تجاه السلطة.
« تكتيك » انتقل الى عدة جهات في البلاد ومارسه جزء كبير من التونسيين بشكل «عفوي» في تحركاتهم التي تنوعت اسبابها ومطالبها ولكنها تلتقى في انها ساهمت بشكل او بأخر في تهيئة المناخ لبروز التنسيقيات في شكلها الحالي. مساهمة تتمثل في تعزيز نسبة عدم الثقة في الاحزاب والأطر التقليدية وفي ترسيخ صورة ذهنية مفادها ان الحكومة والأجهزة الرسمية لا تستجيب او تعالج الاشكاليات التي توجهها إذا لم يقع الضغط عليها واستعمال اية وسيلة لتحقيق هذا الضغط.
كل هذه العناصر وغيرها، من تأكل صورة الفاعلين السياسيين ومنسوب الثقة في المؤسسات وبروز جيل جديد من المحتجين هم في الغالب شباب بين 18 و30 سنة اي ان وعيهم تشكل مع الثورة وما حملته من سلوكيات سلبية وتمثّل للدولة والمؤسسات والسياسيين ولكيفية التحرك لتحقيق المطالب وغيرها..
توليفة تلتقى لتشكل ارضية لبروز هذه التنسيقيات التي تغذت بالخطاب الشعبوي وبأزمة المركز والجهات وببلوغ التنظيمات التقليدية من احزاب ونقابات لمراحل التأزم والعجز عن التجدد التنظيمي وعدم القدرة على استيعاب الجيل الجديد والقدرة على التواصل معه بخطاب غير « ايديولوجي» او غير محمل بصراعات .
أزمة تعيشها الهياكل التقليدية في تونس وخارجها، فانخفاض منسوب الثقة والرضا على السياسيين والحزبيين بالأساس بات ظاهرة عالمية وهي نتاج للازمات التي توجهها المنظومة الحالية وما بلغته من تشبع وقطيعة بين قديم يزاح وجديد لم يرى النور بعد.
كل هذا التقى ليؤسس بدرجات متفاوتة لأرضية تسمح بافراز التنسيقيات وتساهم في نشاطها وبروزها لتصبح «قوة» على الارض تعلن القطيعة والصدام مع القديم، احزاب ونقابات ومؤسسات دولة وتؤسس لممارسة جديدة تعزز الصراع بين المركز والجهات التي تنامى فيها منسوب الغضب وانعدام الثقة خاصة في اوساط الشباب بين 18 و34 سنة.
غضب لشريحة عمرية باكملها تجد لها سندا وحاضنة في صفوف اسرهم ومحيطهم القريب مما يجعلها بمثابة «سلطة» تتخذ القرارات وتلزم الجميع بتنفيذها، وقد برز هذا في قرقنة وتطاوين والآن في جل التنسيقيات المحلية التي تجسد مقاربة التنظم الذاتي المحلي غير المنشغل بما هو خارج فضائه الجغرافي- القبلي وان ابدى دعم او مساندة للقضايا المشابهة او التي تندرج في ذات الخانة.
تنسيقيات ينظر اليها على انها الخطر الاكبر، وفي هذا قدر من الصواب إذا تعلق الامر بخطرها على التنظيمات التقليدية وتداعيتها عليها كسحب البساط من تحتها والبروز كممثل شرعي للجهة ومطالبها بما يضع التنظيمات التقليدية في اشكالية كبرى.
اشكاليات تشرح لما تدخل الاتحاد العام التونسي للشغل في القيروان وباجة حيث بادر وقاد الاضراب العام قبل ان تبرز مجموعات منتظمة ذاتيا وتدعو الى تحركات، خيار اتخذه الاتحاد ليظل في الصورة ويحمى شرعيته ومشروعيته القائمة على تمثيله للهامش والمهمشين ومطالبهم. بعد ان فقدت الاحزاب قدرتها على اللحاق بركب الحراك الذي انهى وجودها الميداني على ضعفه في الاحتجاجات وسلب منها شعار تأطير الشارع والاحتجاج لتكون الاحزاب ابرز المتضررين.
احزاب اعتبرت ان الظاهرة «ظرفية» لن تتطور، وهذا وارد خاصة إذا حققت لها مطالبها المتمثلة في التشغيل، وهنا تقدم الحكومة ذات الاجابة عن هذا المطلب التوظيف في شركات البستنة والغراسة والبئية، وهو ما يقبله جزء من المحتجين بشرط ان يقع الحاق هذه الشركات بالقطاع او الوظيفة العمومية بما يوفر مواطن شغل قارة ودائمة.
لكن ما قد يكون بمثابة الطوفان هو تطور هذه التنسيقيات لتصبح لاعبا اساسيا في المشهد التونسي وان تحل محل التنظيمات التقليدية، إذ حصل هذا سيكون بمثابة بداية لشكل وتصور جديدين لكيفية ادارة الفضاء العام والدولة.