أبعد ما يكون عن نهضة «التأسيس»، قول يستهل به الرجل والحركة زمنا جديدا في تاريخ الجماعة الاسلامية التي باتت على بعد خطوات من الانقسام لتكون جماعات واحزابا.
لم تكن استقالة عبد الحميد الجلاصي من حركة النهضة اول استقالة تشهدها الحركة منذ تأسيسها باسم الاتجاه الاسلامي، ولكنها مختلفة عما سبقها، والاختلاف لا يكمن في ثقل الرجل في حركته ولا في تاثيره على قواعدها وعدد من قياداتها الوسطى بل في السياقات التي تأتي فيها الاستقالة.
لا تكمن اهمية استقالة الرجل القوي في الحركة الذي ادار انتخابات 2011 والجهاز التنظيمي لها وظل الرجل الاقوى في الحركة حتى بعد استقالته في 2015 من مهامه واكتفائه بعضوية مجلس الشورى السابق او الحالي الذي استقال منه باستقالته من النهضة التي رافقها لأربعين سنة.
فقد سبق وان استقالت شخصيات نهضاوية ذات ثقل وتاثير على غرار أحميدة النيفر وصالح كركر وعبد الفتاح مورو –قبل ان يعود في 2016، وهم من المؤسسين مع الغنوشي للحركة. واستقال حمادي الجبالي وأسماء اخرى رحلت واستمرت النهضة.
الاهمية التي تعكسها الاستقالة تكمن في السياق والأسباب، سياق لم تعد فيه وحدة الحركة والخوف من «التنازع وذهاب الريح» كما قال الجلاصي كافية لبقاء قيادات فيها كما كان الامر طوال الخمسين سنة الفارطة، خاصة وقد تغيرت الازمنة ولم تعد «النهضة» كجماعة قادرة على الاستمرار.
قدرة اكد الجلاصي انها انتهت والسبب في ذلك النشأة ودوافعها والتربية السياسية التي جبل عليها النهضاويون، فالنهضة كجماعة انتهت صلاحيتها التاريخية ولم تكن منذ 2011 قادرة على قيادة مرحلة سياسية مختلفة عن ازمنة التأسيس والشتات. وهذا تجلى بأشكال مختلفة في مؤتمرها التاسع 2012.
مؤتمر ثبت القديم على اعتباره ظرفيا وانتقاليا في انتظار تاسيس الجديد صلبه، أي الانتقال من قيادة المؤسسين الى الجيل الثاني او الثالث في الحركة التي سعى البعض الى ان تصبح حزبا سياسيا لا «جماعة» وطائفة، لكن السياقات السياسية والاحداث محليا واقليميا ونشوة الانتصار في الانتخابات في 2011 كانت السم الذي تجرعته النهضة لتصل اليوم الى ما هي فيه.
منذ 2012 اثير ملف رئيس الحركة وجيل التاسيس وكيفية الانتقال وفي 2016 فتح الملف من جديد ولكن كما في السابق كانت مقولة «وحدة الصف والجماعة» تنتهي كل الخلافات بالتوافق او بتاجيل الامر الى ازمنة اخرى. لتمر السنوات التسع منذ خروج النهضة من السرية الى العلنية والحركة عاجزة عن ان تنتقل من جماعة الشيخ الى حزب ومؤسسات.
واقع كشفه الجلاصي الذي قال ان مؤسسات الحركة باتت واجهات، التنفيذي و الشورى، اذ يشير الى ان الحركة و في تاريخها «لم تمر بمثل حالة المركزة الراهنة في الموارد و المصالح والقرار» بل وان هذه المركزة جعلت النهضة انعكاسا لراشد الغنوشي الذي بات وفق الجلاصي محور سياسات النهضة. انتقال اعتبره الجلاصي قد استنزف «الرصيد الاخلاقي والقيمي والأركان التأسيسية» التي ترتكز عليها النهضة كجماعة اسلامية.
نص استقالة الجلاصي ليس مجرد استقالة لقيادي غاضب، فالرجل تجاوز الغضب بمراحل منذ 2015 وهو اليوم في لحظة «التأسيس» الجديد، تأسيس يستند الى الغضب المحتدم في صفوف النهضاويين على خلفية عدة ملفات تصب كلها في المؤتمر الـ11 للنهضة ونهاية زمن الشيخ.
هذا المؤتمر هو لب الصراع والقطرة التي افاضت كاس الجلاصي ، الذي يبدو انه لن يكون بمفرده، فالرجل استقال في سياق باتت فيه الخلافات الداخلية للنهضة اشد عنفا وحدّة، لتطال ما كان ينظر اليه كثوابت، وحدة التنظيم والالتزام بالجماعة وهما ركيزتان في عقيدة النهضة، التي جعلت من وحدتها مقدمة على كل شيء.
عقيدة جعلت من الاستقالات والانسحابات التي عرفتها النهضة في تاريخها، غير ذات تأثير على اعتبارها لم تنل من بنية النهضة او عقيدتها، اي انها لم تكن تفكيكا بنيويا للحركة / الجماعة، لكن استقالة الجلاصي اتت في زمن انطلق فيه التفكك البنيوي للنهضة.
تفكك برز في الصراعات الداخلية وفي محاولة التموقع من قبل طامحين لخلافة الغنوشي في رئاسة الجماعة او من لهم مصلحة ببقائه على راس الحركة لفترة أطول. صراع استنزف الصورة الاعتبارية والرمزية للشيخ وجرده من هالته وجعله مجرد «خصم» صلب حركة نشأت كجماعة عقائدية ببنى عقائدية، الولاء والبراء.
هذا التآكل في الاسس التي قامت عليها النهضة ونجحت في ان تستمر بفضلها طوال السنوات الخمسين الفارطة، انطلق منذ سنوات حتى ما قبل الثورة، ولكنه تسارع بعدها مما جعلها اليوم تصل الى حتمية التغيير او الانقسام. تغيير لم يحصل على الرغم من المؤتمر العاشر ومخرجاته، وهو ما عزز حالة القطيعة بين تيارات برزت صلب الحركة بشكل مباشر منذ 2016.
قطيعة انتهت الى ان يستقيل الجلاصي، وما للرجل من تأثير ادبي على قيادات وسطى في الحركة، ويبدو انها ستسرع في مراحل الانشطار التي تسعى قيادة الصف الاول في النهضة الى احتوائها عبر احتواء الرجل وإثنائه عن الاستقالة.
محاولة وان نجحت فإنها تأتي متأخرة، فالنهضة كـ«جماعة» قد تلقت ضربة في مقتل بنص الجلاصي الذي جردها من كل «قداسة» وطهورية، وقدمها على انها جماعة تدور في فلك شيخها الذي لم يبق على نقاء النشأة وسقط في فخ السلطة.