رغم محاولاتها التي يبدو انها قررت استئنافها بعد انتخابات اكتوبر 2019، اذ تعتبر النهضة ان الوضع سانح لتحقيق ما عجزت عنه في حقبة حكمها الاولى وهو اسلمة ناعمة للدولة والمجتمع.
74 صوتا بنعم حصدها الفصل المقترح من قبل حركة النهضة القاضي بإحداث صندوق زكاة في اطار مشروع قانون مالية 2020، اصوات كان مصدرها أصوات كتلة النهضة وكتلة ائتلاف الكرامة لكنها لم تكن كافية لتمرير هذا المشروع الذي بموجبه تحدث الدولة التونسية صندوقا لجمع الزكاة وإنفاقها وفق الشريعية الاسلامية. فصل اعاد احياء مخاوف ماكادت تخفت حتى أوقدت من جديد، طموح حركة النهضة في بناء مجتمع مؤمن في دولته الإسلامية.
مقترح سبق وان اعلنت النهضة عن تبينها له وتعهدت بالدفاع عنه مثله مثل مقترحات اخرى تتعلق بنقل مبادئ او احكام اقتصادية او معاملات من النص القرآني او الفقه الى ارض الواقع وتنزيلها في اطار مبادرات تشريعية تضفى نكهة «الاسلمة» على الدولة والمجتمع.
محاولات تكررت من قبل النهضة التي اعلن رئيس بلدية الكرم، وهو مرشحها، عن احداث صندوق بلدي للزكاة، وهو يأمل في ان يقع تعميمه على البلديات الاخرى، وهذه احدى محاولات الاسلمة الناعمة التي تتبعها النهضة بعد فشل محاولة الاجبار حينما ظنت انها بلغت مرحلة التمكين التي ستقودها إلى انشاء الدولة الاسلامية.
هذه الدولة التي سعت النهضة منذ 2011 الى تنزيلها على أرض الواقع وجعل الشريعة مصدرا اساسيا في الدستور، قبل ان تتراجع في ظل سياقات وطنية واقليمية، سياقات دفعت النهضة الى الاقتناع بان محاولات الاسلمة الفجة لن تتحقق لها وأنّ افضل الخيارات هي الاسلمة المقنعة او الناعمة، والتي بدورها ستصيب الهدف وهو إنشاء دولة اسلامية ليست في ظاهرها للنهضة بل مطلب مجتمعي. ولفهم هذا الخيار لابد من العودة الى محورية الدولة الاسلامية في فكر النهضة وطموحها الجارف لتحقيقه.
هذا الطموح الذي رافق الحركة منذ تأسيسها في ستينات القرن الماضي على يد مجموعة من الشباب الغاضب من الخيارات المجتمعية لدولة ألاستقلال كان حاضرا في خطابها طوال الفترة الممتدة من 1965 الى 2005، وكانت المناسبة الاولى التي خفتت فيها حدة خطاب الأسلمة بحثا عن الاحتماء في تحالف 18 اكتوبر الذي لم يصمد مع زوال حكم بن علي.
حكم زال وانتخابات نظمت وفازت فيها حركة النهضة لتكون الكتلة الاولى في المجلس التأسيسي مما احيا طموح «الدولة الإسلامية» من جديد لحركة كانت كل ادبياتها خلال الاربعين سنة الفارطة تبشر بالدولة والمجتمع المؤمن.
ففي ستينات القرن الماضي نشأت حركة الاتجاه الإسلامي متبعة منهجا عمليا دعويا سلفيا بالمعنى العام وفق ما يؤكده أحميدة النيفر أحد مؤسسيها، قبل ان تضع الحركة اول وثائقها التأسيسية التي صدرت في 1981 تاريخ تغير الاسم الى حركة النهضة، التي باتت تقدم نفسها لا كممثل للإسلام بل محاولة اجتهادية أهدافها ومهامها «بعث الشخصية الإسلامية لتونس حتى تستعيد مهمتها كقاعدة كبرى للحضارة الإسلامية بإفريقيا، ووضع حدّ لحالة التبعية والاغتراب والضّلال».
وهي خطوات اساسية لتحقيق ما قالت عنه النهضة « بعث الكيان السياسي والحضاري للإسلام على المستوى المحلي والمغاربي والعربي والعالمي، حتى يتم إنقاذ شعوبنا والبشرية جمعاء مما تردّت فيه من ضياع نفسي وحيف اجتماعي وتسلّط دولي»، هذا بالإضافة الى «تطبيق الشريعية، باعتبارها من مقتضيات وظيفة الخلافة». وغيره من مفردات الخطاب الشمولي.
شمولية اقرها راشد الغنوشي ذاته وهو يسعى لتجميل حركته قبل المؤتمر الـ10، حيث قال الرجل عن حركته «لقد أنشأنا حركة شمولية، شمولية الإسلام، ولكن تغير الزمن»، وبما ان الزمن تغيير فان الكثير من الجوانب تغيرت معه وباتت النهضة وفق زعيمها مطالبة بـ«الإصلاح والتعديل،حتى تكون أكثر التصاقا بالواقع».
واقع حاولت النهضة ان تلتصق به منذ مؤتمر 1986 الذي وان حافظت فيه على الرؤية الأصولية والشمولية الا انها قامت بـ«تونستها» قليلا، قبل ان تعيد الكرة في 2005 في اطار جبهة 18 اكتوبر للحقوق والحريات.
لكن جميع هذه الخطابات ومحاولات التونسة لم تخف الطابع الشمولي لمشروع النهضة، وهو اقامة الدولة الاسلامية التي تحضر بقوة في كتابات رئيسها ومؤسسها راشد الغنوشي، واولها كتاب «الحريات العامة في الدولة الإسلامية» الذي صدرت طبعته الثانية في 2011 بعد عودة الغنوشي الى تونس، ويسوق على انه بدايات التنظير لتيار الإسلام الديمقراطي.هذا الاسلام الذي اعلنت النهضة في مؤتمرها العاشر انها تبنته بعد ان فصلت بين السياسي والدعوي وقطعت مع كل مقولاتها القديمة.
لكن بين الخطاب والفعل هناك هامش كبير تكمن فيه الحقيقة، والحقيقة ان النهضة ورغم محاولة البروز كحركة سياسية قطعت مع تاريخها القديم مازالت تؤمن بالدولة الإسلامية والدستور الإسلامي الديمقراطي. دولة مثالية يتمتع الجميع فيها بالحقوق والحريات السياسية والفردية، دولة بشر بها رئيس الحركة في كتاباته التي البست الدولة ثوب»التقوى والأخلاق الدينية».
هذا التذكير بالأسس الفكرية للنهضة هام لمعرفة مدى تعمق فكرة الدولة الاسلامية في العقل الجمعي للنهضة التي اعلنت انها قامت في 2016 بمراجعات انتهت إلى فصل السياسي عن الدعوي على اعتبار ان هذا كاف لتتخلص الحركة من فكرها الشمولي ، اضافة الى انها باتت تعرف نفسها باعتبارها حزبا وطنيا تونسيا وليست حزبا إسلاميا، حيث جاء في وثائق المؤتمر العاشر أن «النهضة حزب ديمقراطي بمرجعية إسلامية».
هذه المرجعية تقدمها النهضة على انها قوة توجيه وانها تخضع للنسبية وصيرورة التاريخ وغيرها من العبارات التي تريد من خلالاها الحركة ان تخفف من طابعها الايديولوجي وتكتسب طابعا سياسيا لحركة ارادت في السنوات الخمس الفارطة ان تجد لها قاعدة جديدة بعد ان فقدت قسما من قاعدتها الذي اتجه للتيارات السلفية.
تداخل البراغماتي بالعقائدي دفع النهضة الى احياء محاولات الاسلمة بعد انتخابات 2019، فإذا اصابت تصبح لديها القدرة على تسويق انتصاراتها لتوسيع قاعدتها الانتخابية وتحافظ على تماسك بنيتها التنظيمية وإذا فشلت فإنها ستسوق الامر ايضا باعتبار ان الزمن لم يحن بعد لتحقيق الوعد وان افضل سبل تحقيقه هي الالتفاف حول الحركة التي ستحقق بالتدرج ما لا يحقق بالقوة.