إلى سنوات الثورة كما يعتقد جلّنا بل يعود ذلك إلى أكثر من عشر سنوات وتحديدا منذ أواسط العشرية الفارطة حيث تراجع النمو إلى حدود 3 ٪ خلال سنتي 2009 و 2010 بعد أن كان المعدل في عشرية التسعينات في حدود 5 ٪ وكل الخبراء الدوليين يتحدثون آنذاك على حدود المنوال التونسي السنوي وأنه بدأ يستنفد أغراضه ولم يعد قادرا على الرقي في سلم القيم بعدما تأخرت كثيرا الاصلاحات الضرورية على هذا المنوال الذي وضع أسسه المرحوم الهادي نويرة في بدايات سبعينات القرن الماضي..
وكان يقال كذلك بأن تونس أصبحت ضحية نجاحاتها النسبية فغالبية طالبي الشغل الجدد هم من خريجي الكليات والمعاهد العليا ولكن الآلة الاقتصادية عاجزة عن استيعابهم مما ولّد لدينا منذ تلك الفترة مشكلة البطالة المتفاقمة لأصحاب الشهادات العليا...
وبغض النظر عن سياسات الحكومات المتعاقبة بعد الثورة والتي تدخل جلّها تحت خانة «تصريف الأعمال» اذا ما استثنينا فترة محاولة أدلجة الجهاز الاداري في حكم الترويكا فلقد زادت تهرئة هذا المنوال فقدان الدولة نجاعتها التقليدية وتراجع كل محركات النمو السابقة.
محركات النمو في بلد كتونس ثلاثة: الاستثمار والتصدير وانتاجية العوامل (رأس المال والعمل واللوجستيك والابتكار والتجديد).
على عكس اعتقاد شائع تونس ليست بلدا فلاحيا وأيا كانت الجهد المبذول في هذا القطاع فهو لن يصبح تقنيا قاطرة فعالة ودائمة للنمو..
الاقتصاد التونسي يقوم أساسا على الخدمات والصناعة، وتمثل الصناعات المعملية لوحدها حوالي 80 ٪ من مبادلاتنا التجارية وتقوم هذه الصناعات المعملية على قطاعين جوهريين وهما الصناعات الميكانيكية والكهربائية والالكترونية من جهة والنسيج من جهة أخرى، ورغم محاولات عديدة للصعود في سلم القيم الا أن جل مؤسساتنا لم تتجاوز حدا متواضعا من الادماج التكنولوجي مما جعلنا غير قادرين على احداث النقلة النوعية في هذه القطاعات الأساسية في الاقتصاد التونسي..
العناصر المباشرة للنمو الهش تتمثل في التراجع لنسب الادخار وللاستثمار وللتراجع الحاد للانتاجية مع نمو اقتصاد طفيلي قائم على الاستراد العشوائي مما أعاق كذلك تطوير وحماية قطاعنا الصناعي..
مع مؤشرات كهذه لا يمكن البتة تصور الخروج من الحلقة المفرغة للنمو الهش..
يقول الخبراء الجديون في الاقتصاد بأن بلادنا بحاجة الى صدمة استثمارية، أي استثمارات ضخمة في مشاريع مُهيكلة تغيّر بصفة جذرية المعطيات الانمائية والتنموية في البلاد: شبكة هامة من البنى التحتية (الطرقات السيارة وسكك الحديد والألياف البصرية) ومراهنة بكل قوة على مشاريع في الطاقة المتجددة وخاصة الشمسية والهوائية وبناء مدن جديدة (عاصمة ادارية ومدن ثقافية وجامعية) وميناء في المياه العميقة مع قاعدة لوجستية للتبادل التجاري بين افريقيا وأوروبا وآسيا.. وقوام الصدمة الاستثمارية هي ضخ أضعاف ما ننفقه في التنمية سنويا على امتداد عقد من الزمن وبالاعتماد على رؤوس أموال أجنبية أو شراكة فعلية مع القطاع الخاص، أي عوض أن ننجز 50 كلم من الطرقات السيارة سنويا علينا أن ننجز 300 كلم أو 400 كلم، وعوض أن نرمم بعض الكليات والمعاهد العليا علينا بناء مدن جامعية تحتوي كل واحدة منها على 40٫000 طالب مثلا مع ما يفترضه ذلك من اطار تدريس و بحث قار وقاطن بهذه المدن ووسائل البحث والترفيه والثقافة الملائمة لمثل هذه الفضاءات، ومدن ضخمة للصناعات الثقافية من كتاب وفن وسينما بما يجعل بلادنا بعد عقد واحد أحد أهم المحطات الفكرية والفنية والثقافية في الفضاء الافريقي العربي المتوسطي..
وعاصمة ادارية جديدة ببعض مئات آلاف السكان.. وتوزيع كل هذه المشاريع الضخمة المهيكلة على كل جهات البلاد..
لاخيار لنا لو رمنا الخروج من النمو الهش سوى المراهنة والتخطيط وانجاز هذه الصدمة الاستثمارية الكبرى..
وبالتوازي مع ذلك لا بدّ من اصلاح منظومتنا التربوية والتكوينية اصلاح نجزم أنه لم يحصل بعد منذ أول اصلاح في سنة 1958، وقوام هذا الاصلاح الجبار هو الرفع المستمر والقوي من مكتسبات الغالبية الساحقة من تلاميذنا في الرياضيات والعلوم واللغات والتكنولوجيات الحديثة بما يجعل الخريج المتوسط التونسي في الكليات والمعاهد العليا التونسية قادرا على منافسة خريجي أفضل المدارس الغربية والآسوية وهو الذي سيعطي بعد عقد من الزمن النفس الثاني للاقتصاد الوطني بعد الصدمة
الاستثمارية بالرفع القوي من القيمة المضافة لكل منتوجاتنا وخدماتنا.. أي أن يُصبح الذكاء العمود الفقري لاقتصاد البلاد في أفق عشرين سنة من اليوم..
لا شك أنه على الحكومات القادمة تحسين ما يمكن تحسينه في آلتنا الانتاجية والسعي الى اعادة قدسية العمل والرفع المطّرد من انتاجيته ولكن دون تحقيق نقلة نوعية في الاطار البشري ودون ضخ استثمارات ضخمة لتغيير واجهة البلاد وديناميكية نموّها سنبقى في مرحلة نموّ ضعيف حتى لو عادت كل محركاتنا التقليدية للاشتغال الجيّد ..
وما نقوله هنا ليس حلما بل واقعا تمكنت من تحقيقه عدة بلدان آسيوية كانت أقل منا نموا وتمكنت في جيل واحد من قفزة جعلتها تبزّ اقتصاديات كبرى في الغرب.
والسؤال هو هل سنتمكن خلال الحملات الانتخابية القادمة للرئاسية وللتشريعية من مناقشة جدية لسبل النهوض الفعلي بالاقتصاد وهل سيقدم لنا المترشحون من شخصيات وأحزاب وائتلافات ومستقلين أفكارا جديدة تقطع مع السائد والرتيب؟
يمكن أن نغيّر تونس بصفة جذرية على امتداد عقدين من الزمن ولكن يستوجب ذلك ارادة جماعية تعبر عنها النخب السياسية ونعمل جميعا على حسن انجازها..
مازالت هنالك نافذة أمل..