ما من شكّ في أنّ موت الرجل مثّل حدثا في حدّ ذاته شغل أغلب التونسيين، وأثار ردود فعل مختلفة ومتفاوتة ،وفي كثير من الحالات متباينة إن كان على الصعيد المصري أو العربيّ أو العالمي. ولكن يهمّنا في هذه الافتتاحية، أن نرصد مواقف التونسيين وسلوكهم بالرجوع إلى صفحات الفايسبوك باعتبار تحوّل هذا الفضاء الافتراضي إلى محرار نقيس به مزاج التونسيين المتفاعلين مع الأحداث والوقائع ونكتشف من خلاله تناقضاتهم أو تحولات القيم الاجتماعية إلى غير ذلك من المسائل.
وأوّل ما يلفت الانتباه في التعليقات المصاحبة للحدث اختلاف التونسيين أوّلا: حول تسمية الرجل فهل يعرّف بأنّه «شهيد النظام الاستبدادي» أو «زعيم الإخوان» أو «الرئيس الشرعيّ الوحيد» أو مرسي أو«المجرم السياسي» ...؟ وثانيا: حول توصيف الحدث فهل هو موت أو قتل أو تصفية حساب لخصم من خلال إهمال حقوق السجين، وعلى رأسها الحق في العناية الطبيّة؟ وثالثا: حول الموقف ممّا حدث. فمن الناس من يعتبر التخلّص من خصم سياسي مكسبا سياسيا في هذا السياق التي تستعدّ فيه القوى السياسية التونسية لخوض «معركة» الانتخابات، ومن هذا المنطلق يوظّف الحدث لتوجيه رسالة إلى حزب النهضة مفادها أنّ حزب الإخوان في طريقه إلى الزوال سياسيّا ورمزيّا. أمّا الفئة الثانية فإنّها تلحّ على التفاعل مع الحدث من زاوية تكشف عن ما تستبطنه من مشاعر كره وحقد على تنظيم الإخوان وكلّ الأحزاب الإسلامية ولذلك نراها لا تجد حرجا في التعبير عن «الشماتة» وإبداء مشاعر الفرح، بل الانتشاء «لا ترحملك عظم يا مرسي». وفي مقابل هذا الموقف الذي ينسف آداب التعامل مع الميّت تظهر فئة تلحّ على الفصل بين الموقف الأيديولوجيّ والموقف الإنساني ولذلك نجدها تعبّر عن ضرورة مراعاة «حرمة الموت وأخلاقية التعايش الإنساني» التي تفرض الترحّم على الميّت.
تُبين هذه المواقف عن تحوّل في مستوى منظومة القيم الضابطة للسلوك الفرديّ والاجتماعيّ في تونس.فقديما كان حدث الموت جامعا مؤلّفا بين مختلف الشرائح الاجتماعيّة من خلال طقوس الموت التي تثبت مدى التفاف الناس حول قيم مشتركة ومعتقدات وتآزرهم في «السراء والضرّاء». ولكن ها نحن أمام أناس تغيّرت نظرتهم للموت فصار السلوك يتغيّر حسب هويّة الميّت، وعلى قاعدة الانتماء السياسيّ. ومن ثمّة صار موت العدوّ مناسبة للإفصاح عن مشاعر عادة ما كانت تكبح مراعاة للقيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية وللعادات ولكنّها في سياق الاستقطاب والخصومات السياسية والعنف السياسيّ باتت معلنة في فضاء سمح بالتعبير عن الآراء بكلّ حريّة. وفي المقابل صار موت الحليف مناسبة للتموقع الدينيّ والأيديولوجيّ
والأخلاقيّ بل السياسيّ ضمن لعبة إثبات موازين القوى.
قد تفهم مواقف مختلف الشرائح الاجتماعيّة والثقافية من هذا الحدث وتحلّل في ضوء ما نجم عن ولادة مناخ التحرّر في تونس ما بعد الثورة ولكن كيف نفسّر مواقف نوّاب الشعب الذين أبوا إلاّ أن يمسرحوا حدث الموت؟ وكيف نفسّر موقف عدد من ‹النائبات› اللواتي أصررن على مغادرة قبة البرلمان عندما اقترح نوّاب النهضة تلاوة الفاتحة ترحّما على موت «الشهيد»
و«الرئيس المنتخب شرعيّا»؟
قديما برّر الفقهاء منع النساء من حضور الجنائز بأنّ المرأة عاطفية وانفعالية ولا تستطيع أن تضبط أحاسيسها، فتبثّ الفوضى في موقع من المفترض أن يخشع فيه المسلمون إجلالا للموت ولكن ها نحن اليوم أمام نساء يسلكن سلوكا يعبّر عن الحمولة الأيديولوجية التي باتت تهيمن على تصرفاتهنّ، وهو أمر مُخبر عن أمرين: أوّلهما التحوّل في الهويات الجندرية في السياق السياسوي الجديد، وثانيهما دور المؤسسات والخطابات في نحت الهويات. وهكذا ثبتت مقولة «كلّ شيء هو سياسة». ولعلّ المفارقة تكمن في ادّعاء الواحدة أنّه «ما نحبوش نعملو السياسة في المجلس» والحال أنّ اتّخاذ موقف الرفض مبنيّ على «تعبيرة» سياسية.
ولا نملك أمام هذا السلوك وأمام إنتاج هذه الخطابات إلاّ أن نتساءل عن انعكاسات السياسة على ذواتنا وحياتنا اليومية وقيمنا وتصرفاتنا ومشاعرنا....