أقدمت السلطات السعودية على حشد دعم ديبلوماسي ضخم من خلال احتضانها لثلاث قمم خلال 24 ساعة،وفي الحقيقة يمكن أن نقول بأن المملكة العربية السعودية أرادت استغلال احتضانها للقمة العادية الرابعة عشرة لمنظمة المؤتمر الإسلامي يوم الجمعة 31 ماي بأن تسبقها بدعوة لقمتين طارئتين الأولى خليجية والثانية عربية والهدف واضح محاولة عزل إيران وحلفائها في المنطقة وخاصة حركة الحوثي باليمن خليجيا وعربيا وكذلك إسلاميا .
السبب المباشر لكل هذا هو التنديد بالعمليات التي تعرضت لها المملكة من قبل ميليشيات الحوثي وخاصة تلك الأخيرة التي أصابت محطات لضخ النفط بمنطقة الرياض وكذلك تعرض أربع سفن تجارية لهجومات بالمياه الإقليمية الإماراتية ..
تتهم السعودية إيران بمدها ميلشيات الحوثي بأسلحة متطورة وأساسا بصواريخ بالستية وطائرات دون طيارتسببت في 380 هجوما ضد المملكة (225 بواسطة الصواريخ البالستية و155 بطائرات دون طيار )وان هذا الإمداد المستمر بالسلاح والعتاد والأموال يهدد امن المنطقة وحركة الملاحة العالمية وبإدامة الحرب في اليمن، وهذا هو بيت القصيد .
لقد شنت المملكة العربية السعودية مع حلفائها الخليجيين وخاصة الإمارات العربية حربا في اليمن في مارس 2015 عندما استولى الحوثيون على السلطة هناك، وكانت السعودية تعتقد من خلال «عاصفة الحزم» أن أسابيع قليلة كافية لتغيير المعطيات على الواقع وهزم الحوثيين ومن ورائهم إيران التي تريد أن توجد لها موطئ قدم في جنوب المملكة الوهابية. ولكن بعد أكثر من أربع سنوات من حرب مدمرة قتل فيها حوالي ثمانية عشر الف نسمة حسب منظمة العفو الدولية وأين توجد كارثة إنسانية لا نظير لها منذ الحرب العالمية الثانية ولكن لا أفق عسكري لهذه الحرب ولم يقدر التحالف الذي تقوده السعودية رغم الترسانة العسكرية الضخمة على حسم الموقف لصالحه ..
والأكيد أن إيران تسعى بكل الطرق لتسليح وتمويل حلفائها الحوثيين لاستنزاف المملكة الوهابية بشكل يشبه ما أقدمت عليه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها (ومن بينهم السعودية) في استنزاف الاتحاد السوفياتي في حرب أفغانستان ..
وغني عن القول بأن العدو الأول والأساسي للمملكة منذ أربعين سنة هو إيران الخميني وما تسميه بجمهورية الملالي لا فقط لأن إيران شيعية والشيعة الاثني عشرية هم مارقون بالنسبة لفقهاء الوهابية ، ولكن الأساسي هو استفاقة ما يمكن أن نسميه بالهوية الشيعية في الشرق الأوسط بدءا بالمملكة السعودية حيث نجد أقلية شيعية هامة ( حوالي ثلاثة ملايين نسمة ) ولكن التشيع الذي تأثر كثيرا بنظرية ولاية الفقيه للخميني هو تشيع حزب الله اللبناني والتشيع في البحرين وكذلك جزء هام من الطائفة الزيدية باليمن والتي أعطت الحركة الحوثية (أنصار الله )
وإذا ما أضفنا إلى كل هذا وجود أغلبية شيعية في العراق قريبة جدا مذهبيا وعقائديا من نظرية ولاية الفقيه وأقلية علوية ( وهي فرقة شيعية منشقة) حاكمة في سوريا أدركنا إحساس المملكة الوهابية بأنها أضحت محاصرة من هلال شيعي عربي مدعوم بدولة ذات اطماع إقليمية (إيران) تمكنت من اختراق الخليج (قطر) ولها شبه حليف ذو وزن كبير (تركيا) ..هلال يهدد الأمن القومي السعودي خاصة وأن جل الحروب المباشرة وغير المباشرة التي خاضتها المملكة منذ أربعين سنة للحد من الخطر الشيعي باءت كلها بالفشل بدءا بالعراق مرورا بسوريا وصولا إلى حد الآن إلى اليمن ..النجاح الوحيد للمملكة يكمن في قمعها للاحتجاجات الشيعية في البحرين وداخل حدودها أيضا وما أعانها على ذلك هو ابتعاد جل الشيعة السعوديين عن الايديولوجيا الخمينية ...
هذه السياقات هي التي تفسر حرص السعودية على فرض زمنها وأجندتها لا فقط خليجيا بل وعربيا وكذلك لتثبت أن لا صوت يعلو فوق صوتها مستفيدة من التراجع الكبير لجل الدول العربية التي كانت تزن في المعادلات الإقليمية ونقصد بها العراق وسوريا والى حد ما الجزائر وليبيا أما مصر السيسي فلقد اختارت التحالف الاستراتيجي التام مع المملكة.
كل هذا يسمح بفرض الزمن السعودي خليجيا (ورغم «انتفاضة» قطر ) وعربيا رغم اعتراض العراق .ونجحت المملكة في القمتين الطارئتين الخليجية والعربية استصدار بيانين ختاميين شديدي اللهجة ضد إيران ومتهمينها برعاية الإرهاب عبر أذرعتها المسلحة في المنطقة ، بل ذهبت الديبلوماسية السعودية إلى ابعد من ذلك خاصة في القمة الخليجية إذ نجد في النقطة الثامنة للبيان تنويها بمستوى التنسيق والتشاور مع الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة «تأييد الإستراتيجية الأمريكية تجاه إيران بما في ذلك ما يتعلق ببرنامج إيران النووي وبرنامج الصواريخ البالستية وأنشطتها.
واللافت هنا هو إمضاء قطر على هذا البيان وقد يكون هنا بداية إعادة إدماجها في المنظومة الخليجية بعد أزمة دامت أكثر من سنتين .
ورغم حدة بيان القمة العربية الطارئة المخصصة بالكلية لإدانة إيران إلا أن المملكة لم تتمكن من تمرير ما مررته في القمة الخليجية إذ جاء تأييد السياسة الأمريكية في المنطقة ضمنيا وفاترا في البيان العربي والذي لم يتحفظ عليه إلا الوفد العراقي. كما تجنبت بعض الدول- على غرار تونس – ذكر اسم إيران في كلمات رؤساء وفودها رغم تعبير الجميع عن دعمهم للمملكة والإمارات ضد الهجومات التي استهدفتها ولكن في القمة الإسلامية العادية ورغم ادعاء كل وسائل الإعلام السعودية بأن إيران قد خرجت معزولة فإننا لا نجد إشارة واحدة بالتصريح لإيران هنالك فقط تنديد بالهجومات التي تعرضت لها السعودية والإمارات ولكن الجزء الأكبر من البيان الختامي للقمة الإسلامية تعلق بمناصرة القضية الفلسطينية وبرفض قرار أمريكا تحويل سفارتها إلى القدس وبقرار مقاطعة كل دولة تنسج على هذا المنوال .
ما الذي سيبقى من هذه القمم الثلاث ؟
العنصر الأساسي هو فرض السعودية زمنها وأولوياتها الإستراتيجية خليجيا وعربيا فهي تؤكد مرة أخرى بأنها أصبحت الدولة العربية الأهم خلال هذين العقدين الأخيرين وانه لا وجود لدولة عربية واحدة تجرؤ على معارضتها أو منازعتها هذه الريادة ..
هنالك فقط أحيانا بعض التحفظات ولكن النظام العربي الرسمي أضحى خاضعا بالكامل أو يكاد للزمن السعودي .
ولكن هل يعني هذا شيئا ما في هذا الصراع الإقليمي المحتد بين المملكة الوهابية وإيران ولاية الفقيه ؟
لا نعتقد أن العرب اليوم حتى وإن خضعوا طوعا او كرها للزمن السعودي راغبون – في مجملهم- الدخول في حرب حتى لو كانت كلامية ضد إيران فما بالك بحرب فعلية ، كما لا نعتقد كذلك بان دول الخليج مستعدة لحرب كهذه لأنها ستكون ضحيتها الأولى بحكم سهولة استهدافها من قبل الأسلحة الإيرانية واستعداد حلفاء إيران في المنطقة وأساسا حركة الحوثي باليمن وحزب الله بلبنان والحشد الشعبي بالعراق إضافة إلى نظام بشار الأسد المدين لإيران وروسيا بصموده بداية وانتصاره ثانية على كل المجموعات المسلحة رغم الدعم الضخم الذي تلقته من دول الخليج ومن بعض الدول الغربية .
ثم – وهذا هو الأهم - لا يبدو أن هنالك نية جدية للولايات المتحدة لشن حرب كلاسيكية ضد إيران إذ قد تكون الكلفة مرتفعة بالنسبة للجميع .
في المحصلة نحن أمام تصعيد جديد جوهره ديبلوماسي وخطابي.. تصعيد فيه اصطفافات قديمة جديدة وفيه تأكيد على الريادة السعودية خليجيا – وهذا قديم – وعربيا ولكنها ريادة هشة قائمة على تناقضات تاريخية تجعل من صورة المملكة المقاومة للتطرف والإرهاب عسيرة التسويق ولا يصدقها إلا من كانت له مصلحة في ذلك .
المسالة الواضحة الوحيدة في كل هذا أن هنالك أطماعا إقليمية واضحة لطرفي كفي النزاع وان التوترات في منطقة الشرق الأوسط سترتفع بدرجة خطيرة وان الرابح الوحيد ، كالعادة، هو إسرائيل ..
نحن في انتظار عودة للوعي قد يطول انتظارها ..