وغيرها ونبّهت إلى مواطن الوهن وسبل الإصلاح في أكثر من موقع لعلّ أهمها الكتاب المشترك الموسوم بالجامعة والمجتمع والفعاليات السابقة واللاحقة له، كما أنني تناولت موقع العلوم الانسانية بالذات في أكثر من مكان. وكانت لي محاولات لحثّ أصحاب القرار التونسيين على مستوى الوزارة وعلى مستوى الجامعات، حتى تتحول هذه المقترحات إلى برامج عمل
ولكن لم يحث ذلك إلا نادرا، وذلك لأسباب لن أتوقف عندها باعتبارها من صميم استحالة تحقق الإستمرارية والعمل الإستراتيجي من الجانب التونسي وتحفظ وحذر من الجانب البريطاني. لكني أعتقد أن الفرصة الآن ملائمة للعودة إلى الموضوع بأكثر تركيز، وذلك بمناسبة بعث اللجنة التونسية البريطانية للتعليم العالي التي انعقد لقاؤها الرسمي وصدر الإعلام ببعثها يوم 21 جوان الفارط وكان أوّل نشاط لها تنظيم لقاء ملاءمة وتعارف بين أكثر من 12جامعة بريطانية وكلّ الجامعات العمومية التونسية إضافة إلى بعض المؤسسات الجامعية الخاصة يوم 22 أكتوبر الجاري علاوة على مؤسسات بحث وإدارة من الجانبين التونسي والبريطاني.
ويعد هذا اكبر لقاء مباشر بين الطرفين كما تعتبر اللجنة حدثا تاريخيا من حيث الحجم والطموح خاصة بعد حضور أصحاب القرار السياسي والعلمي في أعلى مستوى. وقد اعود إلى الموضوع بالتفصيل في مناسبة لاحقة خاصة أنني أحد الأعضاء المؤسسين وأحد المساهمين في بلورة التصور الأولي للجنة. ولكن حضور اليومين أتاح لي فرصة أوسع للتعرف على انتظارات الجانبين بأكثر دقة والتفكير في مبادئ التعاون والشراكة العلمية بصورة أكثر تكثيفا وعملية وشمولية، وقد رأيت من الضروري الخوض فيها في هذه المرحلة الواعدة من الشراكة ونظرا إلى تعدد محاولات الشراكة في مجالات البحث العلمي والتعليم العالي عموما. وأنا في كل ذلك مستأنس بموقعي المخضرم باعتباري نتاج مدرسة الجمهورية التونسية وأستاذ وباحث بجامعة عمومية بريطانية ومتخرج من جامعة أمريكية خاصة. هذا إضافة إلى تجارب متنوّعة في الشراكة العلمية مع تونسيين وعرب وغيرهم عبر سنوات عديدة.
أتناول في هذا المقال المبادئ التي يجب أن ترتكز عليها الشراكة قبل الخوض في بعض التحديات المرتقبة.
الشراكة كمبدإ في حد ذاته باعتبار تشابك العالم وتوزع مواطن انتاج المعرفة وتخصصها. ولعل ما أقترحه تحت صيغة ترافد المعارف بمعنى تعاضدها واختلاف ينابيعها وتوحّد مصباتها يُعدّ من صميم الموضوع.
كونية المعرفة: محدودية الذات العارفة أو المؤسسة الباحثة إذ لا وجود لمعرفة محلية بالمعنى الضيق. والواقع أنه حتى لو كان انتاج المعرفة محليا فهي بالضرورة ذات أفق فوق محلي بمجرد أن تدخل باب الاستخدام والتبادل.
خصوصية الشراكة والتبادل في المجال المعرفي:إن المعرفة هي فضاء تشكل صورة عن الآخر‘ الإستشراق مثلا، ومن شأنها التأثير في مجالات أخرى مثل الاقتصاد والثقافة وغيرها. ولذلك نعتبرها المنطلق والركيزة أو المرجع الذي بدونه لا يمكن معالجة بقية مجالات الشراكة. وهي أيضا مدخل نقد الشراكة بحد ذاتها.
السيادة: وهي سيادتان تتمثل الأولى في سيادة القرار والثانية في اعتبار سيادة الآخر مسالة جوهرية في أيّة شراكة. ويأخذ هذا المبدأ بعدا معقّدا في مجتمعات تحتدّ فيها مسألة الهوية والإحساس بالهيمنة، وتونس مثال حيّ على ذلك. ولعل مسألة التأشيرة تعتبر أحد أبرز مؤشرات السيادة. في موضوع الحال، والواقع أن التأشيرة وتعقيداتها المعروفة لا تتعلق فقط ببريطانيا في هذه الحالة باعتبار قوانينها وخصوصياتها وإنما أيضا بقدرة الدولة التونسية على حماية سيادتها التي تتمثّل أساسا في الدفاع عن حقّ مواطنيها في معاملة تليق بهم وتكفل كرامتهم. فالمسألة بهذا المعنى سياسية بامتياز من الجهتين. أمّا ما عدا ذلك فالسيادة تتمظهر مثلا في مدى احترام لدساتير بعضهما وشروط الشراكة وغيرها كثير.
الندّية: لا تعني الندّية التماثل ولا التكافؤ ، ففي الحالة البريطانية والتونسية مثلا لا يمكن إنكار تقدم الجامعات البريطانية في جلّ المجالات ورصيدها التاريخي محلّيا وعالميا، مما يجعلها في موقع المنتج لخبرة ومعرفة تسعى تونس إلى الاستفادة منها والتمكّن من آليات نجاحها ونجاعتها. ولكنّ هذا التبادل ينطلق من موقع الندية بمعنى الاحترام والاستماع إلى الآخر لا الإملاء والفرض. وبالمقابل يبتعد الجانبان عن النرجسية والاستعلاء . ومعنى هذا أنّ اُسلوب التعامل يفترض قواسم مشتركة وحاجة مشتركة. ويتحوّل إلى علاقة تعاقدية تراعى فيها المصالح المشتركة بصورة فعلية لا على مستوى الشعارات. ولعل مجال المعرفة والإقرار بتعدّد مواقع انتاجها وعدم تكافؤ توزيعها مهمّ للطرفين.
المسؤلية الكونية للجامعة بما فيها من معاني المواطنة العالمية والالتزام بحقوق الإنسان من حيث هو إنسان بصرف النظر عن الجنس واللّون والعرق، والالتزام بحماية المحيط ومسؤولية المركز تجاه الأطراف أو المهمش. وهو يعني في ما يعنيه عدم تقديم المصلحة الخاصة الذاتية أو القطرية على مصلحة الآخر. وتجنب النظر إلى الربح المالي باعتباره الهدف الأسمى للتبادل. وهنا تكمن خصوصية التعاون في المجال المعرفي. ولعلّ تنزيل ذلك البعد الكوني في المسؤولية المجتمعية للجامعة باعتبارها قاطرة المجتمع ونتاجه في نفس الوقت هي أحد مواقع الشراكة.
ولا يخلو مشروع طموح كهذا من تحديات أذكر أهمها.
تحوّل الظرفي إلى الدائم أو مخاطر الإنتقالية: تمر كلّ من بريطانيا وتونس بتجربتين انتقاليتين رغم اختلافهما، إذ تبحث بريطانيا عن مواقع وأسواق وتحالفات جديدة نتيجة انفصالها عن الاتحاد الأوروبي. وتمرّ تونس بفترة انتقالية تنوّع من خلالها علاقاتها نحو افريقيا والعالم الأنجلوسكسوني بعد الاكتفاء بالشركاء التقليديين مدة عقود، إضافة إلى التحولات المؤسساتية مثل إقرار مبدأ إستقلالية الجامعات وانتخاب قياداتها وإعادة النظر في النظام التربوي. ولذلك يمكن أن تقود هذه المنطلقات وظرفيتها او طبيعتها الانتقالية إلى حلول ومشاريع ظرفية يحكمها الواقع المتحرّك وليس بُعد النظر والتفكير الاستراتيجي. والمجال التربوي بالذات لا يحتمل الإرتجالية والحلول السهلة، وإن تطلبت بعض جوانبه تدخلا عاجلا. ولعلّ الاستقرار والدوام الشريكين ركائز التعليم البريطاني. ولذلك فالنموذج الناجح لا يعني بالضرورة أنه سينجح خارج محيطه.
تحوّل التعليم العمومي إلى سلعة : يشترك الجانبان في أمر مهم يتمثل في عمومية التعليم وهي أحد أهم المكاسب للمجتمعين ولكنّ فهمها وتنزيلها يختلفان بصورة جلية. ولا بد من بذل جهد لفهم الثقافة التربوية للبلدين وتوضيح تعقيداتها وخصوصياتها حتى يتسنى إبداء آراء واتخاذ قرارات مستنيرة بهذا الفهم. فبريطانيا تعتبر أهم أمثلة أو نماذج التعليم العمومي الناجح والذي استطاع المنافسة والإستمرارية. ويتمثل أحد المخاطر في الخوصصة وضغوط السوق او السلعنة ومنها تقننة التعليم، وإعطاء الأولوية للتعليم الخاص الربحي و تهميش العلوم الإنسانية والاجتماعية.
تحوّل دعم التشغيل إلى أداة لتفاقم هجرة الأدمغة : يقرّ الجميع بأن أحد أكبر معضلات تونس تتمثل في الإفراغ وبه اعني هجرة المختصين والقادة والنخبة العلمية . ومنه خدمة حاجيات السوق العالمية على حساب الحاجة المحلية والإكتفاء بواجهة أزمة التشغيل عبر الهجرة. أو التشغيل المرتبط بالسوق العالمية من قبيل مراكز النداء وخدمة البرمجيات وغيرها. فالضغط لتدعيم تشغيل حملة الشهائد العليا وهو أحد نجاحات الجامعة البريطانية باعتباره جزءا من الدراسة والتجربة الجامعية لكل طالب مثال على ذلك.
إن الشراكة في المجال المعرفي ضرورة كونية وحاجة داخلية تونسية ملحة. ولذلك وجب التفكير فيها من موقع مسؤول واستراتيجي يأخذ بعين الإعتبار جملة من المبادئ ويستعد لمواجهة التحديات والمنزلقات التي تحف بها، خاصة وتونس وبريطانيا، وهما موضوع الحال، تمران بفترة انتقالية قد تفرض ضغوطا تهدف إلى تفضيل تعاقدات آنية وظرفية على بناء شراكة فعلية طويلة المدى.