بكلمات جافة استعرضت سيرة أحمد إبراهيم المولود في 1946 بجرجيس، السياسي والجامعي المنضم سنة 1981 إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والمشارك في تأسيس حركة التجديد سنة 1993.
الحركة التي رشّح باسمها للانتخابات الرئاسية سنة 2009، والتي شغل باسمها منصب وزير التعليم العالي سنة 2011 بعد الثورة وفاز باسمها بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي في ذات السنة.
جفاف الكلمات وخلوها من المعنى يقدّم أحمد إبراهيم كأستاذ تعليم عال في اللسانيات المقارنة بالجامعة التونسية، المحال على التقاعد المبكر لأسباب سياسية، فهو من تحدى نظام بن علي وأحرج الرجل ليس بشعارات ولا صدام وإنما بخصلة رحلة معه.
وخصلة الرجل انه محترم جدا، باسم بسيط وعفوي. لكنه صلب كصلابة مواقفه وقناعاته بان الزعامة «مرض» وان الشعارات ترف وان النظام السابق دكتاتوري لا مجال للصلح معه، وان المبدأ ثابت لا يتزعزع ولا يتجزء.
أحمد إبراهيم، أخر المحترمين، دافع عن خيار تخندق حركة التجديد في المعارضة منذ 2001، يومها كان عضوا في لجنتها التنفيذية و أمينا عاما مساعدا، قبل ان يصبح الأمين العام للحركة، في 2007 ليغادر المنصب في 2012، من قاعدة ان من لم يحسن إدارة المرحلة عليه ترك المجل لغيره.
هكذا كان عابرا في كلّ منصب دائم الإقامة في الوجدان، فالرجل الذي لم تغريه المناصب والمسؤوليات سواء في صف المعارضة او في تجربة الحكم والحزب، هو السيد احمد إبراهيم، الذي أضاف لعمل السياسي بعدا أخر لن يفلح غيره في فعله.
فهو الضحوك الطيب لحدود البراءة في مجال يحكمه العبوس والدهاء، هو الذي ينتصر لحقك وانت خصمه ويتنازل عن مكسب سياسي لانه جاء على حساب مبدأ وحده من كان يؤمن به بصدق، السياسة اخلاق.
سيدي احمد، الجيش وطبل يا طبال، هو القروي البسيط الذي لم ينل اسمنت المدينة من روحه وعفويته فرحل عن الدنيا دون آن ينجح في خلق أعداء له او حاقدين عليه، نقي السريرة ابيض الصفحة والشعر والحساب البنكي. غادرنا يوم أمس بعد أن أعيته رفقتنا لـ69 سنة وهو العازف عن صخبنا.
عازف عن رثاء وتأبين لن ينصف الرجل حقّ هو صاحبه المتعفف عنه، زعامة لجيل من السياسيين ظنوا انه لم يصل بعد لمستواهم لينافسهم، وكانوا صادقين فهو لم يتدن ليغرق في قاذورات السياسة وينسى من هو ومن أين جاء.
جاء من تونس الأعماق المنسية، بحلم قروي بسيط بساطة أمانيه وطموحه، جاء من جنوب زاده البحر سمرة فجعله فاتنا مهابا في سكينته، سكينة الدرويش العارف بحقيقة الدنيا والسياسة، هي طريق صوب الذات.
وذاته كانت ابسط مما علق في ذاكرة من مرّوا في دروبه، وأعمق لمن خبره، ففي تتبعه تدرك ان الرجل لم يكن سياسيا وإنما ناسكا متعبدا لم يدّنس ولم تصبه لعنة الموقع، ترك أثره بنعومة على المشهد الذي لم يحفظ له يوما انه رفع عقيرته بالصراخ ولا أزبد واربد.
ففي عنفوان معارضته ظلّ ناعما في استعراض مواقفه الشجاعة والعنيفة، هادئا في كلّ التفاصيل في الحياة والرحيل، حكمته انه «صوفي» لا تصيب الخيبات روحه ولا تسكنه «شرور الدنيا».
برحيله رحل اخر المحترمين، وبات الرثاء ترف وجب أن تكف الألسن عنه، فليس منّا من اقترب من عالمه ليدرك ما كان عليه الرجل فهو أستاذ اللسانيات المقارنة، هو «السالك» في دروب الوصول إلى الحق وهو من أدرك ان الطريق إلى الحق داخل القلب وليس العقل.
ودعا ايها المحترم جدا، وليسعد قلبك برفاقك السابقين.