تأجيل الانتخابات البلدية ما يبرر لها ذلك، ويفسح المجال لأصحابها لتقديم حججهم المنحصرة في مقولات متشابهة، «تفكك الدولة»، «ظهور دويلات عوضا عن بلديات»،«انتشار الفساد»،وكأنها تعمد لتنفير التونسيين من اللامركزية التي تقدم على أنها أم الشرور والكبائر والحال أنها على النقيض تماما إذ أنها المخرج الوحيد المتبقي للبلاد للنجاة من أزماتها المتكررة.
«تقييم اللامركزية بأدوات الماضي واليوم والحال انه يجب تقييمها بأدوات المستقبل» جملة صدرت عن مختار الهمامي المدير العام للجماعات المحلية بوزارة الشؤون المحلية والبيئة، ليقدم موقفه وتصوره القائم على ان الذهاب الى الحكم المحلي خطوة هامة للبلاد، وهو الماسك بملف الجماعات المحلية ما بعد الثورة وقبلها.
تفتت الدولة
الهمامي الذي اعتبر أن اللامركزية لا تمثل خطرا، يتقاسم مع رياض المؤخر، وزير الشؤون المحلية والبيئة، تقييم اللامركزية، واعتبارها «أداة» وليست هدفا بحد ذاتها، أداة يقول الوزير لتقديم خدمات ذات جودة للمواطنين وأيضا إعادة تحديد المنوال التنموي في البلاد.
هذا التقييم جعل الوزير يرى في القول بان اللامركزية خطر وانه يجب الحذر منها «مبالغ فيه»، حتى وان شدد على انه والحكومة يتفهمون «التخوف من اللامركزية» خاصة وانه وقع إقرارها اثر الثورة التي اقترنت الفترة اللاحقة بها بتراجع تطبيق القانون مما ولد خشية من ان تؤدي اللامركزية الى ظهور دويلات خاصة ان تعلق الأمر بالأقاليم والجهات.
وجهة نظر لم تعد مخفية حتى وان ظلت حبيسة النقاشات الجانبية والكواليس السياسية، بل إنها باتت تمثل هاجسا للماسكين بمقاليد الحكم خاصة لدى الندائيين، الذين شرعوا منذ أكثر من سنة في البحث عن تغيير النظام السياسي الحالي والعودة إلى نظام رئاسي. دعوات لا تتعلق فقط بتقاسم الرئيس لصلاحياته مع رئيس الحكومة ومجلس نواب الشعب، بل تشمل «اللامركزية».
حجج هؤلاء جميعا، الخائفون او الرافضون للامركزية، هي ان تطبيقها في ظل مناخات اجتماعية وسياسية غير مستقرة سيؤدي الى تفكك الدولة وانقسام مراكز النفوذ وتجزئها بما يحول دون صدور القرارات وتطبيقها، خشية ورفض باتا اعنف واشد مع أحداث الكامور، وارتفاع مطالب الاستحواذ على الثروات الطبيعية واقتصارها على أبناء الجهة.
هذا القول الصريح لا يقر الوزير بسماعه لكنه يقر بانه استمع للتحذيرات وللمخاوف الصادرة عن البعض، واشار الى انه يتفهم اسباب الخوف والتحذير لكن يعتبره مبالغا فيه، والسبب «عدم فهم مسار اللامركزية وما يعنيه» لا المسار فقط بل مبدئي التدبير الحر والرقابة اللاحقة.
مبدآن أشار الوزير الى انه وقع الاستعداد قانونيا لإمكانية ان يؤديا الى تخلي البلديات أو السلطات المحلية عن أداء مهامها أو تعثر العمل بسبب خلافات داخلية في تركيبتهما، كما ان عملية نقل الصلاحيات وادارة الشأن المحلي والجهوي، ستتم على سنوات فخطة تنزيل الباب السابع من الدستور تمتد على 27 سنة، وتنقسم الى ثلاث مراحل كل واحدة منها بـ9 سنوات، والتي بدورها تنقسم الى مراحل بثلاث سنوات لكل واحدة، يعقبها تقييم شامل ووفق نتائجه يقع المرور الى المرحلة الموالية من نقل الصلاحيات. وفق ما يقوله رياض المؤخر.
غياب القانون
الخشية لا تقتصر على تفتيت الدولة وتفكيك أجهزتها، بل تشمل ايضا الانتقال الى الحكم المحلي دون نص قانوني، في ظل عدم الانتهاء من المصادقة على مجلة الجماعات المحلية، وهي عملية تعتبر وزارة الشؤون المحلية انها لن تستغرق 3 اشهر، اي انه بالامكان الانتهاء من المصادقة على المجلة قبل شهر مارس القادم، الموعد المبدئي للانتخابات البلدية الوارد تاجيلها مرة اخرى.
انتظار المصادقة على المجلة للانطلاق في إصدار الأوامر والقرارات التطبيقية الـ34 التي تنص المجلة على ضرورة صدورها، تقول الوزارة انها استبقته واشتغلت على صياغة هذه القرارات وهي جاهزة باكثر من 70 % وستصدر مباشرة بعد القانون لتسريع تنزيل الاطار القانوني.
إطار يقول المؤخر انه ليس وحده من سيكون كافيا للانتقال الى اللامركزية، بل هي انطلاقة المسار الذي وصفه بـ«الطويل والمعقد»، نهايته تكون بتوفير ادوات الحكم المحلي على غرار البلديات، التي سيكون مناطا بعهدتها تقديم خدمات جيدة للمواطنين والمساهمة في صياغة منوال تنمية لتونس.
ضعف الإمكانيات
الخشية من غياب القانون او ضعفه لايرفعها الرافضون للامركزية بل انصارها الذين يتخوفون من ان يؤدي إفراغ القانون وقلة الإمكانيات الى فشل تجربة الحكم المحلي سريعا، مما قد يمهد الى التراجع عنها.
خشية تفهم من منطلق الحرص على النجاح الذي لن يكون الا بتوفير عنصرين اساسيين للبلديات، موارد بشرية وأساسا الإطارات لسد العجز والنقص الذي تعاني منه البلديات خاصة الجديدة منها، اذ ان جل البلديات الـ350 تعاني من نقص في الاطارات التنفيذية، يقدر بحوالي 7000 شخص. نقص تعلن الحكومة نيتها الى تلافيه باعادة توزيع الموظفين او الانتداب ان اقتضى الأمر.
العنصر الثاني هو نقص الإمكانيات المادية لحوالي 200 بلدية، عانى حوالي 64 منها من صعوبات في سداد ديون متخلدة مما دفع إلى إلغائها وقيمتها تقارب 100 مليون دينار وتمثل ثلثي ديون البلديات التونسية، التي تمثل موازنتها قرابة 4 % من ميزانية الدولة وهي نسبة ترغب الوزارة في رفعها إلى 10 %.
بعيدا عن المخاوف، التي وجب طمأنة أصحابها، وهم صنفان، صنف يخشي على التجربة واخر يرفضها، اذ يبدو ان الفريق الثاني الذي يضم سياسيين ونشطاء لم يستسيغوا بعد فكرة تقسيم السلطات وتوزيعها، بعد 60 سنة من تمركزها بيد الفرد. ما دفعه الى اسقاط خشيتهم على الدستور والمطالبة ضمنيا بتعطيل بابه السابع.
باب تقول الحكومة انها ملزمة به وبتطبيقه، لا فقط «حبرا» وانما خيارا، فاللامركزية هي أحد الخيارات الإستراتيجية الكبرى لها، تراهن عليها لتجاوز إخفاقات الادارة المركزية في تسيير ومتابعة الشأن اليومي للمواطنين ولكن الأهم إعادة صياغة منوال تنموي من القاعدة.
خيار سيدفع الحكومة كما اشار الوزير المكلف بالملف الى عقد جملة من اللقاءات، يحضرها المؤخر والهمامي، مع الأحزاب لتقيم مسار اللامركزية وشرح تداعيات التخلي عنه وتأثيراته على البلاد، ليس اقلها ان الاعتمادات الخارجية المخصصة للبلديات قد تلغى بعد ان تعثرت قليلا بسبب تاجيل الانتخابات البلدية.
ملف اللامركزية ليس ملفا تقنيا صرفا، انما هو ملف سياسي يتداخل فيه الجانبان بامتياز، ولكن الاهم انه سيكون العنوان الأكبر للجمهورية الثانية، وتكريسا لمبدإ المشاركة في تسير الشان المحلي، الذي كان معطلا منذ الاستقلال لاعتبارات عدة لم يعد اغلبها قائما.
الاهم من اعتبارات الماضي هو رهان المستقبل، الذي لا يجب ان يغفل عنه الحرس القديم وهم يحاولون اسقاط قراءاتهم وفهمهم للمشهد التونسي على الواقع الراهن، الذي يفترض ان يدرك الجميع ان وحدة الدولة وكيانها يمكن تحقيقهما بإشراك مواطنيها في صياغة القرارات مباشرة ان تعلق الأمر بالشأن البلدي، وحدة الدولة ليست مهددة بالمرة، فالملفات الكبرى والسيادية ستظل شأنا مركزيا، كما ان الخيارات الكبرى والاستراتيجية ايضا. لذا لا داعي للخوف من التقدم خطوات فهي وان تباطأت ستنتهى بنا الى المكان المنشود، مواطنة فعلية تمارس يوميا في ابسط مظاهرها، اختيار اي نهج يضاء او طريق يعبد واي مشاريع ننجز.