خلال الفترة القصيرة التي قضيتها في القصبة إلى جانب رئيس الحكومة السيد الحبيب الصيد، أو قبلها في البرلمان نائبا عن حركة نداء تونس، أو التي أقضيها حاليا في قيادة حزبي، قابلت - وما زلت- عشرات المستثمرين من رجال أعمال معروفين أو رجال أعمال محتملين، يعرضون مشاريع خلاقة وواعدة بالإمكان إنجازها، وهم من مختلف جهات الوطن، وبعضهم من الأجانب، جميعهم تقريبا مؤمن بالإمكانات المتوفرة في هذا البلد، وغالبيتهم واثق من قدرتها على النهوض والتقدم والتميز، لكن جميعهم يشتكي من قيود الادارة وفساد بعض مرافقها الحيوية ورغبة بعض المسؤولين في الابتزاز والاستفادة الشخصية، ولكن أخطر ما في الموضوع التذرّع بوجود قوانين مهترئة أو إجراءات معطلة ترتبط جميعها بمفهوم « متهافت» وبالٍ للسيادة الوطنية.
كنت في زيارة بداية هذا العام لإحدى الدول الشقيقة، التقيت خلالها سفيرنا هناك، وهو من سفرائنا المميزين والحريصين، وقد سلمني ملفا لمشروع ضخم يريد صاحبه - وهو من كبار رجال الاعمال في ذلك البلد- استثمار ما يعادل مليار ونصف يورو ( اكثر من 4 مليارات دينار) لإنشاء مركز تسوق عالمي سيشغل آلاف الايدي العاملة، وبمقدوره ان يجلب مئات الآلاف من السياح، كما يتضمن وعد هذا المستثمر بتحويل تونس الى مركز لتدريب العمالة لجميع مشاريعه المنتشرة في اكثر من أربعين دولة، فضلا عن تعهده بعدم اخراج دولار واحد من ارباحه من تونس طيلة عقد من الزمان، وتخصيص أموال الزكاة المتصلة بمردود المشروع لدعم منظمات المجتمع المدني التونسية. لكن هذا المشروع، ورغم حماسة جميع مراكز القرار الرئيسية له، ما يزال متعثرا لم يستطع نيل الترخيص الضروري للانتقال من حيّز الورق الى حيّز الإنجاز.
هذا المستثمر ليس نكرة في بلده او المنطقة، وغيره كثر، يجدون رغم حبهم وتقديرهم لبلدنا عنتًا في الولوج الى سوقنا والاستثمار في بلادنا، لأن عقليتنا السياسية والإدارية ما تزال - للأسف الشديد- تنتمي الى زمن الحرب الباردة أو حتى ما قبلها، من خلال المبالغة في الخوف على السيادة الوطنية، التي ليس من خطر يهددها في واقع الأمر غير يأس شبابنا من حياة كريمة على أرضنا واختلال في منوالنا التنموي جعل من تونس «تونسين»، داخلية عميقة، وساحلية نامية..وغير مفهوم لا يرى حرجا بحجة الحفاظ على السيادة المزعومة، في رؤية اكثرية خريجي جامعاتنا ومعاهدنا العليا يرغبون في مغادرة بلدهم الى اي وجهة اخرى والاصطفاف كل صباح في طوابير طويلة امام السفارات الأجنبية طلباً لتأشيرة مهينة، بينما لو فتحت بلادهم بعض شبابيكها وأبوابها لرياح العولمة وحركة الاستثمار الدولية وثمنت موقعها الجغرافي لكانت هي قبلة لآلاف العاملين الأجانب، فضلا عن تشغيل جميع ابنائها.
إن جعجعة بعضهم والاتهامات الجزافية التي تكال للحكومات المتعاقبة، بما يجعلها مكبلة في الاصلاحات، ومترددة في الانفتاح على العالم، حول التفريط في السيادة الوطنية، وبيع البلاد للاطراف المانحة.. الخ، من هذا الحديث «اليسروي» المتهالك، لا يستقيم مع النماذج الدولية التي نجحت في كسب رهانات التقدم من خلال تبني قوانين أكثر انفتاحا ومرونة في التعامل مع حركة الاستثمار الدولي واكثر تثميناً للموقع الجغرافي.
ولا احد بمقدوره اليوم القول بان سنغافورة او كوريا الجنوبية او دبي او غيرها اقل استقلالا او اضعف سيادة قبل انفتاحها وإعادة بناء نفسها واقتصادها على اسس عصرية، مما كانت عليه ايام نيلها استقلالها بداية ستينيات او سبعينيات القرن الماضي.
تتوفر بلادنا على فرص استثنائية بحكم موقعها الجغرافي في قلب العالم ومجاورتها لأهم الخطوط الدولية البحرية والجوية والأرضية، وبحكم إنسانها الموهوب المتعلم.. فقط علينا ان نتخلص من هواجس الخوف من الأجنبي، وحرص بعض رجال اعمالنا على احتكار الكعكة الوطنية المتواضعة أصلا، والسماح لهواء جديد لاقتحام فضائنا.. سنرى ساعتها ريح الحضارة قد حوّلت بلادنا الى نموذج يحتذى به في المنطقة والعالم.. نمر أفريقي يشبه نمور اسيا، وقد ازداد بالانفتاح الواثق منعة وعزة وسيادة.