وكأن القائمين على رسم إستراتيجية الحركة يتعاطون مع الساحة السياسية على انها رقعة شطرنج يجب قراءة تفريعات كل دور فيها على حدة ووضع كل الاحتمالات مع الانطلاق في تطبيق حركات دفاعية او هجومية تأخذ بعين الاعتبار الفرضيات الكبرى المطروحة. من ذلك الانتخابات الرئاسية القادمة أو الطارئة، حيث ان الحركة وضعت فرضيات عدة تتضمن ترشيح رئيسها راشد الغنوشي للسباق الانتخابي وشرعت في تطبيق إستراتيجيتها.
ما قد يميز حركة النهضة عن غيرها من الأحزاب السياسية في تونس، ليس لونها السياسي او منطلقها الإيديولوجي، إنما تعاطيها مع السياسة بواقعية جعلتها لا تعالج القضايا المطروحة عليها بل وتنشغل بما قد يحدث وتضع له تصور عمل يهدف لتحقيق مكسب او الحد من الضرر.
ابرز مثال عن كيفية اشتغال العقل السياسي لحركة النهضة يبرز في تعاطيها مع جملة من القضايا ومنها قضية الانتخابات الرئاسية القادمة، سواء الدورية في 2019 او انتخابات سابقة لأوانها، اذ ان الفاعلين في رسم سياسات الحركة وخياراتها الإستراتيجية، انطلقوا منذ نهاية 2014 في تقييم انسحاب الحركة من رهان الانتخابات الرئاسية.
تقييم جعل أصواتا في الحركة تقرّ صراحة ان الخيار كان خاطئا وان عدم تقديم النهضة لمنافس في السبق الانتخابي خطأ جعلها تقصى من الشأن السياسي الداخلي والخارجي طوال فترة الحملة الانتخابية وما قبلها. ففيما انشغلت الحركة بالانتخابات التشريعية كان المزاج العام في تونس منشغلا أكثر بالرئاسية. كما كانت القوى الإقليمية والدولية مهتمة أكثر بما ستفضي إليه هذه الانتخابات الرئاسية من نتائج. ما أزعج النهضاويين لكن الغياب عن خوض أهم رهان انتخابي، وهو الانتخابات الرئاسية، والمكاسب التي اهدروها من خوض السبق حتى وان كانت خسارة مرشحهم، هي الأكثر ترجيحا.
هذا ابرز ما ذهب اليه عدد من القائمين على تقييم الخيارات السياسية للحركة، حيث اعتبروا انهم وطوال شهرين كانوا خارج المشهد السياسي وان النقاشات العامة في تونس ركزت على هذه الانتخابات والمنافسين الذين سيخوضونها متجاوزة حركة النهضة التي اختارت عدم تقديم منافس وعدم مساندة اي مرشح، مما جعلها خارج الصورة تماما.
خطأ في التقدير وفق ما يراه البعض من قادة الحركة، وجب تداركه من خلال الاستعداد للاستحقاق الانتخابي القادم، والقصد هنا ليس الانتخابات التشريعية، التي بات المزاج العام في الحركة وخاصة في صفها الاول يعتبرها ثانوية امام الانتخابات الرئاسية، مما جعلهم مستعدين لقبول تركيز جهدهم على الرئاسية عوضا عن التشريعية.
تطور في رؤية النظام السياسي وتحديد الأولويات هو ما يميز القراءة الجديدة لحركة النهضة، في انتظار حسمها نهائيا في هياكلها، حيث ان هياكل الحركة ورسميا لم تناقش هذا الملف بشكل مباشر، وهو ما اكده سامي الطريقي عضو مجلس الشورى والمكتب السياسي للحركة الذي قال في تصريح لـ«المغرب» ان هياكل الحركة كانت تؤجل النقاش في ملف الانتخابات الرئاسية وهوية مرشحها كلما طرح الموضوع.
لكن تاجيل النقاش لا يعني غياب التصور وهو ما أكده سامي الطريقي الذي شدد على انه من بين مجموعة صغيرة صلب الحركة تنادي بتقديم مرشح للانتخابات الرئاسية القادمة وان يكون هذا المرشح رئيس الحركة راشد الغنوشي.
هذه الدعوة كما يشير إليها سامي لم تأخذ مسارها في القنوات الرسمية لهياكل الحركة بالمناقشة والحسم، لكن خارج الهياكل الرسمية كانت تجد لها صدى وتناقش في اطر ضيقة خاصة في الصف الأول وفي الماسكين بمقاليد تسيير الحركة ولدى القيادات الوسطى في الحركة.
ترشيح راشد الغنوشي لخوض سباق الانتخابات الرئاسية تطورت النقاشات بشأنه بشكل غير رسمي صلب حركة النهضة، نقاشات ذهبت أشواطا في رسم فرضيات وكيفية معالجتها بما يخدم الحركة وهدفها بالفوز في الانتخابات، فالحركة التي باتت تنطلق من بديهية ان «الشيخ» يحظى بالقبول من قبل القوى الدولية والإقليمية ولا يواجه اعتراضات او رفضا مطلقا من المجموعات المؤثرة في تونس.
من هنا تنطلق النقاشات في ان راشد الغنوشي يمثل لدى الأوساط الدولية والإقليمية الشخصية القادرة على تعويض الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية الحالي ولعب دوره في استمرارية الانتقال الديمقراطي بنهجه الحالي.
المراهنة على قبول الخارج لتولي راشد الغنوشي مهمة خلافة الباجي قائد السبسي تنطلق ليس على ما للرجل من خصال بل على ان الساحة لا تقدم بدائل كثر غيره، ففي قراءة الحركة للمشهد الحالي لا يوجد غير مرشحين جادين لهما حظوظ الوصول إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، ان وقعت خلال 6 أشهر القادمة، احدهما هو راشد الغنوشي.
خلو الساحة من مراهنين جديين على الانتخابات الرئاسية لا يكفى وحده لدى حركة النهضة لضمان وصول رئيسها الى قصر قرطاج، فالحركة التي لاتزال تجادل في هل تذهب إلى ترشيح رئيسها ان قدم رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ترشيحا لفترة رئاسية ثانية أم تساند مرشحا بعينه.
الحركة وفي نقاشاتها تعتبر ان زمن مساندة مرشح من خارجها قد ولى ولن تكرر خطأ تجربة الترويكا، اذ تعتبر انها ساندت المنصف المرزوقي وأوصلته لقصر قرطاج فانقلب عليها في النهاية وبحث عن افتكاك خزانها الانتخابي وقواعدها الحزبية.
رفض ان يقع تكرار ما حدث في 2012 ودعم مرشح لرئاسة الجمهورية من خارج الحركة، لا يكفي وحده ليدفع بالفاعلين في الحركة الى تقديم رئيسها راشد الغنوشي مرشحا منافسا في الانتخابات الرئاسية خاصة ان كان منافسه فيها الباجي قائد السبسي، فالفاعلون في الحركة يدركون ان فرصة صعود الغنوشي تتضاءل.
ليس تنافسه فقط مع الباجي قائد السبسي ما يضائل فرص فوزه بالرئاسية انما عدة اعتبارات انتخابية، فـ«الشيخ» الذي انشغل بتحسين صورته خارج تونس، وعمل على البروز كرجل دولة في لقاءاته الرسمية اثناء زياراته المتعددة لايزال يعاني من تدني نسبة شعبيته في الشارع التونسي.
حركة النهضة و«الشيخ» يدركان ان القبول الدولي والاقليمي قد يكون عنصرا هاما لكنه لا يعوض حقيقة ان من يريد الفوز عليه ان يحظى بقبول الناخبيين، اي ان يوسع من قاعدة شعبيته الى خارج اطر حزبه، لضمان نسب هامة من التصويت، فالحركة التي حصدت حوالي 800 الف صوت في الانتخابات التشريعية لا يرد ذكر أي من قادتها في الخماسي الاول في سبر الآراء المتعلق بنوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية وهو ما يمثل إشكالا كبيرا للحركة.
فان وقع استثناء أنصار الحركة الذين في الغالب سيصوتون لـ«شيخهم» فان جزءا هاما من القاعدة الانتخابية لا تزال تنظر بعين الشك الى رئيس حركة النهضة، امر تتعامل معه الحركة بواقعية وتدرك أنها مطالبة ان تضعه كأحد العناصر الواجب الاشتغال عليها في الفترة القادمة.
من اجل ذلك انطلقت الحركة في رسم خطط تسويقية لرئيس الحركة من اجل الترفيع في نسبة شعبيته في مختلف الاوساط، وقد انطلق ذلك من تفعيل صفحات «الشيخ» على مواقع التواصل الاجتماعي والإشهار لتحركات الشيخ ومواقفه المعتدلة.