ويكشف الوزير المقال في ندوة صحفية ملفات «الفساد» التي تحاك في ظلام البيوت المغلقة لرئاسة الحكومة !!
تذبذب الشاهد
لم يناقش الكثيرون في حق الشاهد في إقالة البريكي ،الوزير المتململ ، وإن قدّر بعضهم بداية بالمعني بالأمر ، بأن في الإقالة نوعا من الاهانة وأنه كان بالإمكان طلب استقالة الوزير بصفة فورية وهكذا تحفظ كرامة الجميع..
ولكن ما لم يفهم في قرار رئيس الحكومة ليست الإقالة بل التعيين المباشر للسيد خليل الغرياني القيادي المعروف في منظمة الأعراف..
ما لم يفهم في قرار التعيين ليس تجاوز اتفاق قرطاج من عدمه بل عدم توقع ردة الفعل القوية من اتحاد الشغل ومساندة جلّ الطيف السياسي له في هذا الأمر وتحويل القرار الحكومي إلى استفزاز للمنظمة الشغيلة ..
كيف لم يتوقع رئيس الحكومة ردة الفعل هذه ؟
هذا هو مصدر الغرابة الأساسي وكأننا أمام ما يشبه السذاجة السياسية والحال أن ردة فعل اتحاد الشغل كانت منتظرة ومتوقعة خاصة وأن العلاقات مع الحكومة ليست الآن على أحسن ما يرام والصراع التام والكلي بين نقابتي التعليم ووزير التربية يلقي بظلاله الكثيفة على أجواء البلاد..
ثم لمّا اعتذر خليل الغرياني لِمَ تمّ حذف الوزارة بأكملها ؟ وهل أن المهام الجسيمة المناطة بعهدتها قد انتفت بمجرد اعتذار الوزير المكلف ؟
كل هذه القرارات بدت وكانّ فيها تسرّعا غير مدروس وكأنها تؤشر على حالة من الارتباك خاصة أمام حالة شبه العطالة التي تعيشها البلاد وعجز الحكومة الحالية عن وضع البلاد على السكة الفعلية للعمل والإصلاح..
ولكنّ العارفين بأروقة القصبة يجدون بعض الأعذار لرئيس الحكومة الشاب : بداية ،العلاقات الممتازة بين خليل الغرياني وجلّ القيادات النقابية بل يقول بعضهم بأنه سبق لقيادات نقابية مرموقة اقتراح اسم خليل الغرياني على رئيس الحكومة للاستفادة من خبراته في مجال الحوار الاجتماعي وهذا ما شجعه -على الأرجح- لتكليف الغرياني وثانيا يبدو أن سرعة قرار التعيين وكذلك حذف الوزارة ثانية إنما كانت عملية استباقية من صاحب القصبة لكي لا يخضع لابتزاز الأحزاب لا على مستوى التعيين في البداية ولا على مستوى التعويض ثانية..
أيّا يكن من أمر فالأسبوع الماضي لرئيس الحكومة ،سياسيا، هو أسبوع للنسيان..
أناقة الغرياني
لا يمكن أن يلوم أحد خليل الغرياني على طموحه لقبول منصب وزاري يعتقد انه بإمكانه تقديم الإضافة فيه..ولا ينتقص من الرجل كونه رجل أعمال بل العكس هو الصحيح..تونس بحاجة اليوم إلى إضافة كل أبنائها وخاصة منهم أولئك الذين نجحوا في حياتهم المهنية .. ثم لا بد من الإقرار بالاحترام الكبير الذي يحظى به خليل الغرياني في كل الأوساط بما في ذلك الأوساط النقابية..
ولا يمكن أن نلوم الرجل كذلك على عدم استباقه الردّ القوي لاتحاد الشغل فهو لا ينحدر من الطبقة السياسية الكلاسيكية المعتادة على احتساب كل إمكانيات المناورات والتكتيكات .. ولكن عندما أحسّ الغرياني بأنه أصبح يمثل مشكلا لا حلّا لم يتوان عن تقديم اعتذاره لرئيس الحكومة تقديما لمصلحة البلاد ولصيانة علاقات الشراكة بين منظمة الأعراف والمنظمة الشغيلة..وفي هذا الموقف من النبل ما ينبغي الإشادة به في هذه الظروف الحالكة التي تمرّ بها البلاد..
أنصاف حقائق البريكي
عبيد البريكي نقابي وسياسي «شرس» بالمعنى الايجابي للكلمة وهو مجادل ماهر وقد خبره كل التونسيين بعد الثورة عندما كلفه رفاقه في المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل بمهمة جدّ دقيقة سنة 2011 وهي أن يكون الناطق الرسمي باسم المنظمة وقد أتقن هذا الدور وأبدع فيه ..
وعبيد البريكي الذي لا يخفي ميولاته الفكرية والسياسية أراد أن يعود لتونس وللحياة السياسية كذلك وكان التحاقه بحكومة الشاهد من هذه الزاوية..
فهو لا يمثل اتحاد الشغل ولا أي تنظيم يساري ولكنه قريب من الحساسية النقابية اليسارية وبهذا الاعتبار كان التحاقه بحكومة الشاهد تعبيرا على نوع من توسيع التمثيلية السياسية للحكم..
نحن لا نريد تقييم تململ عبيد البريكي عندما كان وزيرا ولكن يهمنا كثيرا تقييم ما قاله يوم أمس خلال ندوته الصحفية والتي « كشف « فيها حسب رأيه ملفات «الفساد» التي دفعته بصفة جدية إلى التفكير في الاستقالة.. وهنا قال الكثيرون - ومن بينهم كاتب هذه السطور- لقد شهد شاهد من أهلها وانه لا يمكن تصور أن يخرج وزير سابق بملفات غير دقيقة وغير موثقة..
ولكن عندما نتحرى في الأمر نرى أن جلّ ما قاله البريكي يدخل في أحسن توصيف في خانة « أنصاف الحقائق» لكي لا نقول بان فيه نوعا من مغالطة الرأي العام وإيهامه بوجود ملفات فساد خطيرة والحقيقة على غير هذا التوصيف كما سترون..
تحدث عبيد البريكي عن «ملفات فساد» بحوزته ذكر منها الأموال المتخلدة بذمة الموردين تجاه مصالح الديوانة وذكر منها احد الموردين الذي تراكمت ديونه لتصل إلى المبلغ المفزع 211 مليون دينار ..
عندما نتحرى في الأمر نجد أن هذا الشخص كان من شركاء أصهار بن علي وان أملاكه مصادرة وملفه عند القطب القضائي ..
ملف المرجان الذي أشار إليه كذلك هو أمام أنظار المحكمة الابتدائية بجندوبة منذ شهر مارس 2016..
أما أهم وأخطر ما في أقواله فهو إيحاؤه بمحاولة انتداب جملة من المواطنين من «جهات» لم يرد ذكرها وهو ما يتنافى مع المنشور الذي يرفض الانتداب في الوظيفة العمومية خارج المناظرات العامة..
ولكنّ هذه «الجهات» إنما هي في الحقيقة بعض مناطق الجمهورية لا «جهات « نافذة في الدولة ومطالب الانتداب تعلقت بملفات اجتماعية وإنسانية أثارت مشاعر كل التونسيين عند حدوثها ونذكر منها انتدابات ضحايا أحداث الرش بسليانة المصابين في أعينهم والفاقدين لكل مورد رزق وقد حصلت في هذا جلسات عمل واتفاقيات بين الحكومة واتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان..
وكذلك أهالي الغرقى في الحادث الذي هزّ ولاية المهدية وكامل الجمهورية وتعهدت حينها الدولة بتشغيل فرد من كل عائلة ..وكل الملفات التي ذكرها البريكي من هذه الشاكلة .. فهل هذه هي «ملفات الفساد»؟ !
نحن لا نوافق كثيرا على واجب التحفظ الذي يذكره بعضهم إذ من واجب كل مواطن أن يفضح كل ملفات الفساد.. ولكن السنا هنا أمام محاولة لتصفية حسابات نتيجة إقالة لم يستسغها بعد الوزير المقال ؟ !
يبدو أن المناخ الموتور بالبلاد قد أفقد الكثيرين أعصابهم وجعلهم يغفلون عن البديهيات ويخلطون مصلحة البلاد بمصالحهم الخاصة أو الفئوية ..
ما أسهل الهدم وأيسره في بلد كثرت فيه المعاول ..