ويعلم العقلاء بأنّ هذا الثمن لابدّ منه وبأن البلاد ستجني أضعاف أضعافه عندما تنجح في تأمين انتقالها الديمقراطي وتثبيت مؤسساتها وتشمر عن ساعد الكدّ والعمل.
ولكن ما كل انتقال ديمقراطي كلّل بالنجاح ..فالفشل احتمال وارد في كل سعي إنساني..ويعلم العقلاء أيضا بأن الفرق بين طريقي النجاح والفشل تحدده تفاصيل صغيرة ويلعب على جزئيات كما يقال في لغة كرة القدم..
من بين هذه التفاصيل نضج الطبقة المسيرة بالمفهوم العام أي تلك الشخصيات والأحزاب والمنظمات الذي تجد نفسها بحكم مواقعها الطبيعية أو الانتخابات أو الوجاهة أو حتى الصدفة مساهمة بشكل أو بآخر في إدارة المرحلة الانتقالية ..وفي وضعية الحال المحدد ليست هي الخصال الشخصية لهذا الكمّ من القيادات بل حسن تقديرها لصعوبات المرحلة وحسن تدبيرها أيضا..فجهنمّ كما يقال ، مفروشة بالنوايا الطيبة ..
ما نلاحظه ونحن في بداية السنة السابعة من هذه التجربة العظيمة هو افتقارنا الكبير إلى طينة القيادات القادرة على اختصار الزمن وتجنيب البلاد المتاهات والمطبات..
نحن لا نلقي باللائمة على الجميع ونعلم جيّدا وجود العديد من العزائم الصادقة في كل المستويات ولكنّ منظومات القرار السياسي والحزبي والنقابي والإعلامي والجمعياتي تصبّ جلّها في الطريق الخطأ ويهدد جلّها أيضا سلامة الطريق وسلامة البلاد..
يكفي أن نجيل النظر يمينا وشمالا لنرى حجم الكوارث المتراكمة والحروب الوهمية الزائفة وإهدار الجهد والطاقة والوقت..
لا نريد أن نركز فقط على الأزمة / المهزلة بين نقابات التعليم ووزير التربية لأنها الشجرة التي تخفي الغابة.. فكم هي كثيرة مهازل الطبقة المسّيرة للبلاد بدءا من الحزب الفائز في الانتخابات والذي أدت به مسرحية التوريث الفولكلورية والرديئة إلى موجة من الانقسامات والأزمات لا نعلم نهايتها .. والصراع غير المفهوم بين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء..ثم ها نحن أمام بوادر «حرب» طاحنة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة..«حرب» عنوانها الظاهر اليوم المطالبة بإيجاد « بدائل» عن وزير التربية وإلا فإنها ستكون سنة بيضاء ..ولكن عناوينها الخفية اكبر بكثير من هذا.. إنها عملية كسر ذراع لن يخرج منها مستفيد واحد..والنتيجة الأولى لهذه الأزمة الجديدة هي نية عبيد البريكي وزير الوظيفة العمومية والحوكمة الاستقالة لأنه لا يريد أن يجد نفسه في ساحة الوغى بين منظمة تربّى صلبها وتحمل فيها أعلى المسؤوليات وحكومة التحق بها على اعتبارها «حكومة وحدة وطنية» وانه يمثل فيها، بمعية محمد الطرابلسي وزير الشؤون الاجتماعية ،الحساسية النقابية.
وتفيد نية الاستقالة هذه بان الأسوأ مازال أمامنا وأنّنا مازلنا في بداية عملية كسر العظام التي قد تأتي على الجميع وتخلف حطاما وقد تؤثر بدورها بصفة جدية في مآلات المسار الديمقراطي في بلادنا ..
نحن نقترب بخطى حثيثة من «الساعة الخامسة والعشرين» على حدّ عنوان رواية الروائي الروماني الشهير فيرجيل قيورجيو(Virgil Gheorghiu).. الساعة التي تغادر فيها الفئران السفينة لأنها تحس قبل غيرها بالغرق الوشيك..
إن الذين يصرون على إقحام البلاد في معركة خطأ في الزمن الخطأ يتحملون مسؤولية المآلات التي لا يمكن لأحد أن يتكهن بها اليوم ولعلّ أخطرها اصطياد بعض المغامرين الشعبويين لحالة الإحباط العام للدعوة إلى عودة نظام العصا الغليظة وقد يجد حوله أنصارا أكثر من كل الأحزاب مجتمعة.
لا نريد أن نيأس من وجود عقلاء في كل الأوساط وخاصة صلب قيادة اتحاد الشغل فالإصرار على الصدام إلى حدّ إسقاط الوزير قد يسقط قبله كل أعمدة الخيمة الوطنية الهشة لا لأن وزير التربية فوق النقد والانتقاد ولكن لأنه لا توجد حكومة واحدة تحترم نفسها يمكن لها أن تقبل بكسر إرادتها وبهذه الشاكلة..وان هي قبلت فستكون قد دكت آخر آسفين في نعشها..
لن نتحدث هنا عن مستقبل مليوني تلميذ ولا عن مآل المدرسة العمومية لان الرهان أهم وأعظم بكثير من ذلك : بناء دولة الحق والقانون أم دولة القوة وفرض الأمر الواقع..
كم كانت أحلامنا كبيرة سنة 2011.. وكم يشفق اليوم التونسيون على بلادهم ..
استيقظ يا حشّاد..