تحليل إخباري: منهم العائدون من بؤر التوتر.. ومنهم الملاحقون أمنيا.. ومنهم الموقوفون... ومنهم المسجونون... ماذا نفعل بالإرهابيين؟

تنامت مخاوف التونسيين في الأسابيع الأخيرة من احتمال عودة الإرهابيين من بؤر التوتر دون محاكمتهم بداعي «التوبة» أو غيرها وتداعى مواطنات ومواطنون من اتجاهات مختلفة إلى رفض عودة الإرهابيين إلى بلادنا وحتى الى تجريدهم من الجنسية التونسية إن لزم الأمر...

وإن تعذّر ذلك – لأسباب دستورية – فلا أقل من محاكمتهم وسجنهم لتجنيب مجتمعنا خطرهم وشرهم...

ويبدو أن إعلان وزارة الداخلية بأن هنالك حوالي 800 شخص قد عادوا من بؤر التوتر لم يطمئن التونسيين رغم تأكيد وزير الداخلية نفسه أمام مجلس نواب الشعب بأن مصالحه لديها كل المعلومات حول هؤلاء وأن السلط العمومية تتابعهم أمنيا وقضائيا بما يتناسب والجرائم المتهمين بها..

خطورة متأكدة
لا ينبغي لأحد أن يقلل من خطورة عودة الإرهابيين التونسيين من بؤر التوتر... فهؤلاء قد تلطخت أياديهم بالدماء إما بالقتل مباشرة أو بالإعانة عليه كما أنهم تدربوا وتمكنوا من شتى أنواع السلاح ومن تقنيات حرب المدن والعصابات وبعضهم في هذا المجال له دربة عالية وبالتالي فإنهم خطر محدق على أمن البلاد والعباد فتلك مسألة لا يناقش فيها عاقل واحد...
والعائدون منهم اليوم لا يفعلون ذلك «حنينا» للوطن بل سعيا لنقل الجحيم المشرقي الى بلادنا.

كما أن بعض الداعمين، تلميحا أو تصريحا، لما يشبه «قانون التوبة» أو «المناصحة» إنما يفعلون ذلك لا رأفة بالبلاد بل خوفا على هؤلاء من العقاب المستحق وتدفعهم في ذلك وشائج إيديولوجية مع الفكر الإرهابي لا تخفى على أحد....
فهم لا يرفضون عقيدة «السلفية الجهادية» مطلقا بل يرون أن التنظيمات الإرهابية قد بالغت فيها ليس إلا وأن الإرهابيين هم اُناس قصدوا الحق ولكن أخطؤوه...
فالتوبة أو «المناصحة» في ذهن هؤلاء يكون المراد بها الفصل بين التطرف والعنف... أي ندخل فيها إرهابيا ونقنعه بأن العنف المادي الذي يمارسه مناف لـــــ«الإسلام الصحيح» فنخرجه بعد ذلك متطرفا ولكن دون عنف!! وذلك عين السذاجة وعين الاستخفاف بمقتضيات أمن تونس والتونسيين...
وغني عن القول بأن معالجة الملف الإرهابي برمته لا يمكن أن تكون خارج نص وروح قانون مكافحة الإرهاب الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب في السنة الفارطة...

في صعوبات التطبيق
ولكن بعد أن نكون قد أكدنا حجم الخطر والمبادئ التي ينبغي أن تقود الدولة في هذا الملف هل نكون أجبنا على كل مخاوف مواطنينا وعلى كل ما تقتضيه المعالجة الآنية والآجلة لموضوع الإرهاب؟ بالتأكيد لا...
لنبدأ بموضوع عودة الإرهابيين من بؤر التوتر... لقد كان بعضهم يرى أنه ينبغي أن نجردهم من جنسيتهم التونسية وبالتالي لا نسمح لهم بأن يطؤوا مجددا أرض تونس...
الواضح أن هذا الحل مستحيل لا فقط لتناقضه مع الدستور الذي ينص بوضوح على ذلك في فصله الخامس والعشرين «يُحجّر سحب الجنسية التونسية من أي مواطن أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن» ولكن كذلك مع كل المعاهدات الدولية... وما لا ينبغي أن يغيب عن ذهن أحد منا بأننا نقاوم وسنقاوم الإرهاب وسننتصر عليه كذلك فقط بالوسائل المتاحة في دولة ديمقراطية لا غير... وأن وحدها الدولة الديمقراطية قادرة على دحر نهائي للإرهاب....
ولكن مع ذلك فالعائدون من بؤر التوتر وخاصة مستقبلا بعد دحر بعض مواقعهم في سوريا والعراق وليبيا سوف لن يعودوا من المعابر الرسمية وحتى إن عادوا منها وتمكن الأمن من إثبات تواجدهم بسوريا أو العراق أو ليبيا أو غيرها خارج المسالك القانونية فإثبات تهمة الإرهاب عليهم ليست دائما ممكنة من الناحية القضائية أي تهمة تثبت بالأدلة القطعية...
صحيح أنّ وزير الداخلية السيد الهادي المجدوب قد سعى يوم الجمعة الماضي إلى طمأنة التونسيين ولكن لا نعتقد أن البلاد تملك كل معطيات الإدانة لزهاء ثلاثة آلاف إرهابي الموجودين حاليا في بؤر التوتر...

حلول جديدة ؟
والسؤال الدقيق هو كيف سيتم التعامل مع من تمكنا من كشف عودته دون القدرة على إثبات قطعي لكل الجرائم التي اقترفها؟ وحتى إن تم إيقاف هؤلاء وتمرير ملفاتهم للقضاء فالمتوقع أن يتم إطلاق سراح بعضهم لغياب أدلة الإدانة وأن يُحكم على آخرين بعقوبات سجنية متوسطة....

بعبارة أخرى بإمكاننا التوقي مؤقتا من خطر الإرهابيين العائدين ولكن الإشكال سيعاد وبأكثر حدّة عند نهاية مدة الإيقاف أو فترة السجن...
بالإمكان أن نلجأ إلى عقوبات إدارية من صنف فرض الإقامة الجبرية مثلا... أو أن نحدث مراكز إيقاف تحفظية بقانون جديد يعطي فترة أطول من تلك التي يسمح بها قانون مكافحة الإرهاب للعناصر التي تقدر مصالح الأمن بأنها خطيرة جدا...
حتى وإن افترضنا إمكانية إقامة هذا الصنف من المعتقلات فإنه لا مناص لتونس من التفكير في مرحلة ما بعد الاعتقال إذ يستحيل مسك كل مظنون فيه في مجال الإرهاب مدى الحياة داخل السجون أو مراكز الاعتقال الوقتية...
ونفس هذه الأسئلة تطرح، ولكن بأكثر حدة على المؤسسة السجنية... كيف ستتصرف مع المتهمين في قضايا إرهابية خلال فترة إيقافهم ثم كيف ستتصرف معهم خلال فترة سجنهم وهل لدينا تصور لإمكانية تأهيل ما لهؤلاء الإرهابيين إذ طال الدهر أو قصر فجزء منهم سيعود لا محالة إلى حياة اجتماعية ما...

التفكير في اليوم الموالي
يتضح مما سبق أن لتونس مشاكل كبيرة في التعامل مع هذا العدد الهائل من الإرهابيين داخل أرض الوطن وخارجه... فنحن قد نجحنا إلى حد كبير في حسن التعامل الأمني المباشر مع الإرهاب من تفكيك لخلاياه الفاعلة أو النائمة ورصد لتحركات عناصره الخطيرة والقضاء على بعضها في المواجهات المباشرة...

كل هذه النجاحات المتراكمة جعلت الجماعات الإرهابية اليوم في مرحلة دفاعية وفي تشتت واضح لقدراتها التخريبية. وهذه الانتصارات الأمنية والعسكرية تؤشر لتحسن أكيد على المستوى الاستخباراتي وأننا بصدد كسب نقاط ثمينة في هذه الحرب الخفية والتي بدونها لا يمكن تفكيك الشبكات الإرهابية وقطع أوصالها...

يبقى الآن أن نحكم طريقة التعامل مع الخطر الإرهابي في مستوى ربح المعركة النفسية ضد جل أفراده....

فنحن لن نهزم الإرهاب نهائيا إلا متى جعلنا مواصلة «النشاط» الإرهابي أمرا مستحيلا لجل العناصر التي سبق وأن تورطت فيه وأن نقطع بصفة كلية كل إمداد جديد وخاصة من شبابنا الذي يشكو هشاشات عدة...
هذه الحرب طويلة المدى وتستوجب صبرا وأناة وإصرارا... هي حرب تربح في كل نقطة وفي كل لحظة وفي كل مستوى... ولكن هذا كله لا ينبغي أن ينسينا أننا أمام ظاهرة معولمة يتأثر فيها الوطني بالإقليمي بالدولي وهذا ما يفرض علينا أن تكون لنا – حسب إمكانياتنا ودون أي غرور – معالجات وطنية وإقليمية ودولية كذلك...

الحرب اليوم ضد الإرهاب حرب أمنية شاملة علنية (مواجهات) وخفية (استخبارات)، ونحن قد أحرزنا في هذا المجال انتصارات واضحة ولكن ينبغي من الآن الاستعداد للحروب الأخرى وأن نتعود جميعا على العيش زمن الإرهاب دون خوف مفرط أو إحباط... فتونس ستنتصر حتما ولكن بإمكاننا أن نحقق هذا الانتصار بأقل كلفة ممكنة بشريا وماديا...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115