اليوم تحيي تونس الذكرى الستين لاستقلالها.. ولكن أي معنى بقي لهذه الذكرى اليوم ونصف شعبنا دون الثلاثين من عمره؟
في سبر الآراء الذي أجرته مؤسسة سيغما كونساي خلال بداية شهر مارس نرى أن الصورة الإيجابية للغاية لهذا الحدث تخفي أحيانا مواقف متناقضة في توصيف بعض جوانبه...
أول ما نلاحظه هو أن الأغلبية الساحقة للتونسيين (87 %) فخورون باستقلال تونس.. بل نجد أن ثلثي المستجوبين (67 %) فخورون جدا باستقلال بلادهم مقابل 3 % فقط من الذين لا يفتخرون بالمرة بالاستقلال..
هذا الرقم يدل لوحده على مركزية حدث الاستقلال رغم أن الذين عايشوه هم قلة قليلة للغاية وأن حوالي نصف التونسيين هم دون الثلاثين سنة..
هذا الافتخار والاعتزاز بالاستقلال له مضمون ملموس بالنسبة للتونسيين.. ويتجسم هذا المضمون في مكاسب يثمنها التونسيون كثيرا ويأتي في مقدمتها ثلاثة مكاسب لها دلالة خاصة: الجيش الوطني بنسبـة 92 % فإجبارية التعليـم ومجانيتـه بـــ 83 % ثم الجمهورية بـــ 74 %..
يمكن أن نقول بأن هذا الثالوث يمثل ما يجمع التونسيين اليوم ويعزز افتخارهم بالاستقلال أولا وببلادهم من وراء ذلك..
ومهم أيضا أن نعلم أن التونسيين يعطون مضمونا مجتمعيا للاستقلال بداية بتعميم خدمات الصحة العمومية (66 %) وصولا إلى منع تعدد الزوجات (55 %) مرورا بتحديد النسل (66%) وتحرير المرأة (64 %) والتغطية الاجتماعية (58 %)..
فلو أردنا أن نلخص كل هذا لقلنا بأن مضمون الافتخار بالاستقلال يتمثل في إرساء نظام جمهوري وفي دولة اجتماعية حداثية راهنت على ديمقراطية التعليم (رغم نواقصها) والتغطية الصحية والاجتماعية مع تحديث العائلة وتحرير المرأة وتثوير البنى الاجتماعية التقليدية.. هذا هو جوهر دولة الاستقلال بالنسبة لأغلبية التونسيين...
وهذا يدلّ على أن مجتمعنا موحد في قيمه الأساسية أكثر بكثير مما تدل عليه أحيانا صراعات ومنافحات السياسيين.
بورقيبة ثم فرحات حشاد
هنالك سؤال على غاية من الأهمية رغم ظاهره الشخصي: «ما هي حسب رأيك الشخصيات التي ساهمت أكثر من غيرها في استقلال تونس؟» والإجابة هنا تلقائية.. إذ جاء بورقيبة في الصدارة دون منـازع 77 % والثاني فرحات حشاد بـــ 42 % ويأتي متأخرا عن هذا الثنائي ثنائي آخر ذو دلالة صالح بن يوسف وعبد العزيز الثعالبي بـــ 15 % لكليهما ويختم هذا الخماسي محمد الدغباجي بـــ 8 %... وهذا يؤكد مرة أخرى هيمنة أيقونة بورقيبة على الاستقلال حتى بعد مرور 16 سنة على وفاته وحوالي 30 سنة على مغادرته للحكم.. فبورقيبة وتونس قد امتزجا بشكل أصبح عسيرا معه الفصل بينهما.. وحتى الشخصيات الأخرى فهي، بشكل من الأشكال، مكملة له رغم خصوصية كل واحد من هؤلاء الزعماء الكبار...
ولكن هذا الافتخار باستقلال تونس وبمكاسبها لا يمنعان نظرة نقدية حادة للواقع الراهن للاستقلال اليوم.. فعندما نسأل التونسيين اليوم عن درجة استقلال البلاد اقتصاديا وسياسيا نرى أغلبية نسبية (62 %) ولكن عندما ندقق في الإجابات نرى أن 16 % فقط يعتبرون أن البلاد مستقلة تماما من الناحية السياسية مقابل 29 % يعتبرونها في حالة تبعية وحوالي نصف المستجوبين 46 % يرون أنها في حالة استقلال جزئي..
بالنسبة للاستقلال الاقتصادي الحكم أشد قسوة في التفاصيـل: 8 % فقط يعتبرون أن تونس مستقلة تماما اقتصاديـا مقابـل 34 % يرونها في حالة تبعية كاملة و54 % يقولون بأن البلاد مستقلة جزئيا اقتصاديا..
وفي الحقيقة لا يتوجه هذا النقد لدولة الاستقلال بقدر ما يتوجه للسياسات الحكومية بعد الثورة والتي يحملونها بصفة غير مباشرة هشاشة استقلال البلاد سياسيا واقتصاديا...
الإرهاب والتدهور الاقتصادي والخلافات بين الأحزاب
عندما يُدعى التونسيون للمقارنة بين مكاسب دولة الاستقلال والتي قد فقدوها بعد الثورة يأتي الإرهاب، كمعطى جديد تمام الجدّة، في طليعة القائمة بــــ 72 %.. كما نلاحظ أن التونسيين يعتبرون أن جملة من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، ولو كانت نسبية، قد تراجعت بعد الثورة بداية من تدهور الوضع الاقتصادي وصولا إلى البطالة ومرورا بتدهور الوضع الاجتماعي وتهميش الشباب ومديونية الدولة والإضرابات وكل هذه العناصر مجتمعة تمثل 47 % من الإجابات (مع العلم أن الإجابات تلقائية) ثم تأتي في المرتبة الثالثة المشاكل السياسية بـــ 21 % (الخلافات بين الأحزاب السياسية بـــ 17 % وتدهور الوضع السياسي بـــ 4 %)..
في المحصلة نلاحظ مفارقة كبيرة في سبر الآراء هذا بين الافتخار الأصلي شبه الإجماعي باستقلال البلاد وكذلك بالمنجزات الاجتماعية والتحديثية لهذا الحدث الهام مقابل خوف على ديمومة هذا الاستقلال سياسيا واقتصاديا وتخوف من المخاطر الكبيرة المحدقة به وعلى رأسها الإرهاب فالوضع الاقتصادي والاجتماعي وكذلك الخلافات بين الأحزاب السياسية والتي لا يعيشها التونسيون كعنصر إيجابي بل كعامل تهديد للوحدة الوطنية...