رأي: في معاني عيد الاضحى

من المعلوم أن الفقهاء اشبعوا «الأضحية» وعيد الاضحى بحثا ولا انوي مراجعة ما ذهبوا اليه وهو ثري ومتنوع ولكني اطمع الى في إبداء رأي متواضع في شعيرة من شعائر الإسلام من منطلق غير ديني وغير لاهوتي . ويسعدني بهذه المناسبة أن أهني تونس وطنا وشعبا بهذا العيد المبارك راجية أن يعيده الله علينا في ظروف أفضل .

ويحدوني أمل كبير في أن يحتفل التونسي بعيد الأضحى كخير ما يكون الاحتفال ، دون أن ينسى واجب اليقظة الذي يقتضيه حفظ الوطن من كل مكروه، ودون أن ينسى أننا مدعوون جميعا إلى إحكام التصرف في كل شيء ، بما يقتضيه الواجب الوطني اليوم ، بما في ذلك المناسبات الدينية .

ولئن لم أكن من أهل الاختصاص في الشأن الديني ، ولا أدعي إني ملمة بما يذهب إليه الفقهاء والمفسرون لمعاني اختبار آو ابتلاء إبراهيم عليه السلام بقبول ذبح ابنه اسماعيل كما يقول البعض في الإسلام أو إسحاق كما يقول اليهود,فاني أسعى في مداخلتي الى تقصي ما يمكن أن تكون المعاني العامة لهذه الشعيرة الدينية وهي عيد الأضحى

.وهنا أشير إلى أمر اعتبره على غاية من الأهمية وهو أن المقاربة التاريخية غير ذات جدوى وربما لا تأثير لها على رمزية هذه الشعيرة. فسواء اعتبرنا هذه الشعيرة ذات بعد تاريخي حقيقي كما نقول نحن معشر المسلمين وكما تقول اليهود أم أننا اعتبرناها مجرد قصة لا حقيقة لها الا في قلب المؤمن بها . فالمعنى يبقى ثابتا في كلا الحالتين أي سواء اعتبرنا الأمر يتصل بظاهرة تاريخية موضوعية أو بواقعة إيمانية ذاتية... فسؤالنا هنا هو سؤال المعنى لاسؤال الحقيقة كما يقول ريكور .

فماهي هذه المعاني الممكنة ؟يبدو لنا انه يمكن رصد المعاني التالية :

1 - المعنى الأول يتمثل في آلية الاتصال بين الإنسان والإله في الملة الابراهمية ( اليهودية، المسيحية ، الإسلام ) وهو المنام ’ أو الحلم أو الرؤيا وهي آلية منتشرة في الثقافات القديمة.وما زال الكثير منا يعتبر إلى اليوم أن الحلم أو المنام ضرب من ضروب الإطلاع على الغيب واستباق الأحداث ’ في حين أن فرويد مثل علماء النفس المحدثين يعتبر الأحلام متعلقة بماضي الحياة الشخصية لا بالمستقبل ...والحلم عنده هو إشباع رغبات مكبوتة وليس انفتاحا على الغيب.. ومن هذه الناحية فان تلقي نبي الله إبراهيم الأمر بذبح إسماعيل عن طريق الرؤيا يندرج في تاريخ الإنسانية اندراجا عاديا ...مثل ذلك حلم يوسف الذي رأى احد عشر كوكبا والشمس والقمر رآهم له ساجدين...وغير ذلك كثير

2 - المعنى الثاني هو أن التضحية بالأبناء لإرضاء الآلهة واستدرار عطفها وطلب معونتها وقت الشدائد خاصة’ ممّا دأبت علية الإنسانية في العصور القديمة وفي مجتمعات متعددة. ففي قرطاج لم يزل المذبح باقيا اثرا تاريخيا’ في مصر الفرعونية حيث كان لابد من أن يهدى إلى النيل فتاة كل سنة وهي العادة التي أبطلها عمر ابن الخطاب غَداة فتح مصر ونجدها كذلك عند الرومان وعند اليونانيين وعند قدماء العراقيين... الظاهرة كانت إذا منتشرة وعادية... وبالتالي فليس في حلم ابراهيم الخليل ما يخرج عن تاريخ الانسانية وعن الثقافات في الشرق خاصة ...

3 - المعنى الثالث هو أن التقرب إلى الله لا يكون –في الخيال الشعبي على الأقل -إلا بالذكر دون الأنثى.وهو تفكير رائج لكنه غير صحيح دينيا اذ المطلوب في الاضحية ان تكون سليمة فقط ...
وأحبّ أن أشير في هذا السياق إلى كتاب الأستاذ وحيد السعفي أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة تونس بعنوان القربان في الجاهلية والإسلام (نشر تبر الزمان سنة 2003 ) .ومما بينه الأستاذ السعفي أن الأنثى هي قربان الجاهلية وان الذكر هو قربان الإسلام ولنا أن نذهب إلى أن افتداء إسماعيل ‘’بذبح عظيم’’ كما تقول الآية القرآنية واقع في سنن الملة الإبراهيمية وان إبراهيم كان مسلما وهو من معاني اتصال الرسالة من إبراهيم إلى الرسول العربي ...وفي ذلك علامة تشير إلى تواصل الأجيال الإنسانية في إطار وحدة بشرية يزداد وعيها بذاتها وضوحا وهو من ضرورات القول بكونية الإسلام باعتباره رحمة للناس أجمعين بصرف النظر عن ألوانهم ولغاتهم ...

4 - المعنى الرابع يتعلق بالتحول العظيم الذي أحدثته الملة الإبراهيمية بتعويض القربان البشري بقربان حيواني وفي ذلك إشارة جلية إلى تحرير الإنسان وتحريم إراقة دمه ..ولو لم يكن في عيد الأضحى من المعاني إلا هذا المعنى لكان فيه خير كثير...ولعل التونسي مدعو اليوم -وهو يصارع الإرهاب- إلى أن يتأمل هذا المعنى...ويعمق النظر فيه
وقد لا يتسع المجال لبيان لماذا ساد الاعتقاد أن ‘’الذبح العظيم ‘’ الذي افتدي به إسماعيل هو خروف وليس حيوانا آخر ...هل لأنه كان عند قدماء المصريين رمزا للإله //آمون . هل لأنه كان رمز الإله //خنوم //الإله الذي يزعم قدماء المصريين انه صنع الإنسان من طين ؟ هل لشهرة الخروف /الكبش في الثقافة الشرقية عامة؟

هذه الاسئلة تدفعنا الى التساؤل عن العلاقة بين ما قبل الديانة الابراهيمية عامة والاسلام خاصة من ناحية وبين ما بعد البشرى الابراهيمية والاسلامية.
نسير في هذا الموضع -قبل المرور إلى المعنى الموالي من معاني التضحية - يحسن إن نشير إلى ما تضمنته هذه المعاني الأربعة التي أشرت اليها ’ من وصلة بين المعطيات الثقافية والانتروبولوجية السابقة على الملة الابراهمية (اليهودية ، المسيحية ، الإسلام) وما جاءت به الملة الابراهمية نفسها فنحن نجد نفس الطقوس : القربان والتقرب للآلهة واستدرار عطفها بطرق شتى أي أننا أمام ظواهر كثيرة متشابهة في ثقافتين مختلفتين:

• ثقافة وثنية قبل ابراهيمية، وثقافة ابراهيمية، حيث كثيرا ما نجد في الثقافتين نفس الشعائر والطقوس. فما الذي تغير؟وهل تجب الاديان ما قبلها فعلا وبـأي معنى؟
في تقديري إن التشابه المشار اليه هو تشابه ظاهري و هوبالتالي تشابه سطحي لأنه يخفي فوارق عميقة أولها : إن الملة الابراهيمية لا تهلّ شيئا لغير الله بل أنها تتجه في كل ما تفعل إلى الله وحده دون شرك وبالتالي فنحن ننتقل من الوثنية إلى التوحيد ومن تكاثر الأديان إلى الدين الواحد وهو تحول فكري ووجداني عميق حققته الملة الابراهيمية بان جعلت الانسان لا ينصرف إلا إلى الله وحده حتى حين يقوم بأشياء تشبه او تذكر بطقوس ماضية .فالجاهلية ليست في الأشياء والسلوكات ليست في المقاصد والنوايا... وبذلك نفهم ان الاصل في الدين الوازع الشخصي الوجداني والمقصد الذاتي وليس الشعائر التي لامعنى لها دون ذلك المقصد...
ثاني هذه الفوارق: هو تحرير الإنسان من الخوف من إن يراق دمه إشباعا لآلهة عطشى لدماء البشر وهي آلهة لا تعيش الا من خوف البشر. أنت ترى كيف إن التوحيد يلزم عليه مباشرة الإيمان بحرية البشر وبنزع الخوف من قلوبهم : إلا بذكر الله تطمئن القلوب. وفي ذلك اشارة جلية الى ان التربية الدينية هي تربية على حب الله وحفظ حق الانسان لاعلى ‘’الخوف’’ او الاعتداء على حرية الانسان
وهكذا ندرك عقليا ان الملة الابراهيمية ربطت ربطا وثيقا بين البعدين الانطولوجي والانطروبولوجي ...الاول هوالمطلق الانطولوجي اي الله والثاني هو المطلق الانطروبولجي اي الانسان الحر. ومن هنا نستنتج المعنى الخامس

5 - المعنى الخامس لشعيرة ‘الاضحية’’ وهو في رأيي أصعب المعاني لأنه يبدو مشدودا إلى النفس الإنسانية والى ما فيها من انفعالات قد تجعلها حبيسة ذاتها... منطوية على ذاتها’ منكسرة على الدوام.
فإذا كان تعويض القربان البشري بقربان حيواني حرر الإنسان من الخوف من ضروب من الآلهة عطشى للدماء ولا يرضيها إلا إلى سفك دماء البشر’ فان قصة إبراهيم مع الله ومع ابنه تطرح مسائل لا تقل خطورة عن تلك التي يطرحها تعويض القربان البشري بقربان حيواني ...من أهم تلك المسائل لحظة الارتقاء من الطفولة اللامسؤولة الى الرشد والمسؤولية اي’’التكليف’’. فاسماعيل في التوراة كما في القران طفل بريء، وبالتالي فهو لم يفعل ما يستحق الموت .وهو لم يبلغ بعد سن التكليف وسن المسؤولية فضلا عن أنه لم يفعل ما يمكن ان يجعل القتل عدلا في حقه. وهو دون سن الجزاء والعقاب’ ولذلك فان قتله سيكون عن غير حق . صحيح أنه للّه أن يختبر إبراهيم كما شاءت ارادته وعلى النحو الذي يراه ... ولكن ما ذنب الصبي حتى يكون ذبيحا وعن طيب خاطر ؟ وهنا يمكن أن نقع في خلاف وكأننا نحمل الإله -تسامت حكمته- قصورنا الذهني وهوان الله أمر إبراهيم بقتل ابنه البريء.

هذا التأويل لا يستقيم لاسما انه متناقض مع أول وصية إلاهية من الوصايا العشر وهي لاتقتل ابدا ..فكيف لنا بتاويل الأمر الإلهي لنقف على معانيه الحقيقية فننزه الإله عن الظلم من ناحية وعن التناقض من ناحية أخرى .
انطلاقا من حسن الظن بالله وجب هنا أن نعيد تأويل ‘’الأمر الإلهي بذبح إسماعيل’’: هل هو فعلا أمر بذلك أم هو رمز لمعنى لم أقف عليه في الحقيقة عند البعض مما قرأت من مفسري الإسلام (ابن عشور، ابن كثير، الطبري) ، بل عثرت عليه عند كانط الذي ينكر تماما أن يكون إبراهيم قد أمر بقتل ابنه لان أول أوامر الله للوصايا العشر لموسى» أن لا تقتل» فكيف يمنع الإله قتل النفس التي حرم قتلها ثم يأمر الأب بذبح ابنه؟

يذهب «كانط» إلى أن الإله أمر إبراهيم لا بذبح ابنه على طريقة الوثنيين، بل أنه أمره بتجاوز الذات أي بقتل الطفل في ذاته... وكون ذلك الطفل هو ابنه تدقيقا ففيه إشارة إلى مدى حب الإنسان لطفولته فيه وتعلقه بها وتجاوز الطفولة معناه الارتقاء إلى «الرشد»، وبالتالي المرور من مرحلة اللامسؤلية إلى مرحلة المسؤولية والتكليف في إشارة ألاهية إلى ما ينتظر سيدنا إبراهيم من مسؤولية هو اذا أمر لا بقتل الانسان بل بتجاوز ما يعوق نماء الانسانية فينا اي الاهواء والانفعالات والميولات الطبيعة التي تشد الانسان الطفل الى الحيوانية اكثر مما تدعوه الى الارتقاء الى مستوى الانسانية. فالامر يعنيى الدعوة الى الارتقاء بالذات وتجاوز الوجود الغريزي

وعملية تجاوز الطفولة هنا يمكن تأويلها بطرق شتى:

1 ) التاويل النفساني، بعنى الانتقال من الوجود الغريزي الطبيعي الصرف الى الوجود الفكري الذي يسيطر فيه العقل على الاهواء .ويمكن ان نقول مع فريد الانتقال من ‹›مبدأ اللذة ‹›إلى››مبدأ الواقع ‹›كما هو يقول فرويد

2 ) التأويل الانتروبولوجي بصفته يعني الانتقال من ضرب من الثقافة الى ضرب آخر اي هنا الانتقال من الثقافة الوثنية ’ثقافة الحس المباشر إلى الثقافة الابراهمية ثقافة التوحيد والتفكر المفتوح على المطلق

3 ) التأويل الأخلاقي هو الانتقال من وضع ‹›الخوف ‹› إلى وضع القلب المطمئن والحر

تلك هي في تقديري المتواضع بعض المعاني التي يمكن أن تكون من معاني الاحتفاء بعيد الأضحى.وكم وددت ان يكتفي الشعب التونسي في هذه الظروف الصعبة باضحية رمزية يقوم بها رئيس الجمهورية نيابة عن جميع التونسين .فمعاني الاضحية يمكن ان تتحقق بهذه الطريقة الاقتصادية البسيطة اذا ماصحت المقاصد في اطار الولاء للوطن وتقدير أولوياته...

بقلم: د.كريمة بريكي 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115