وكتب في شأنها «حمّام الأغزاز» في أقصى الشّمال الشّرقيّ من الوطن القبليّ. ويبدو أنّ هذا الصّحفيَّ لم يكن يعرفُ تلك القرية قبل ترحالِه إليها وتجوالِه فيها. فعُنصُر المفاجأة والاستغراب كان مفهومًا بين سطورِ مقالِهِ. يقول هذا المراسِلُ مُحاوِلا تقريبَ ما رآهُ إلى ذهنِ القارئِ:
«حمام الأغزاز: [في ذلك المكان] جاء المهندس- مثل كلّ عام- يقيس الأرض ويتحرّك أمام النّاس ويتهامس القوم: «هاهي الدولة ستقيم لنا مكتبا»، ومثل كلّ عام لم يُفتح المكتب، وإنما هي مظاهرات يبرّرون بها المجابي ويُطمّعون بها النّاسَ تغريرا بالثقة. فلا مدرسة ولا مستشفى ولا طريق معبّدة توصل إلى القرية ولا سيّارات نظاميّة تبلغ المسافرين وتوصل الرّسائل. والسّيّارات لا تصل إلا إذا كانت مشمَّرة تسير على عجلات عالية لتصعد الصّخور وتهبط الحفر، فالسّير على الأقدام وعلى الدّوابّ أسلمُ من السّير على الدّرّاجة. وبعد هذا فلا نور كهربائيًّا ولا قنواتِ الماء يجري فيها ويسيل للشّاربين إلا الآبار.
والقرية على ثلاثة أميال من مدينة قليبية وتكوّن الرّأس المُشير إلى المشرق من هذا الشّمال التّونسيّ، تقع مواجِهة لجزيرة «بنتالريّة» على الطّرف الخارج من المملكة التّونسيّة.
المقاومة الثّقافيّة
وإنّ المتتبّع لتاريخ حمام الأغزاز منذ الاستقلال خاصة، يلاحظ بروز جيل جديد في السّتّينات من القرن الماضي من خرّيجي المعاهد والجامعات التونسية القليلة آنذاك والذين تلقَّوْا تعليمهم الابتدائيّ العصريّ في حمام الأغزاز بعيد تأسيس المدرسة العربية- الفرنسية المختلطة بها في 19 جانفي 1952. حيث انطلق أبناء هذا الجيل في استظهار طاقاته الجديدة وأفكاره الطليعيّة وأصرّوا على استكمال المسيرة التنمويّة بروح جديدة ومختلفة، فكانوا مبدعين في الميدان الاجتماعي والثّقافي خاصّة، فأسّسوا اللجنة الثقافية المحليّة وفرقة المسرح في السّتّينات، وجمعيّة «فتح» للكرة الطائرة في السّبعينات، ومهرجان «كركوان الثقافي» في الثّمانينات. وتمكّنوا بوسائلهم البسيطة من الإشعاع جهويّا ووطنيّا ومن التّعريف بالبلدة والمساهمة في إثراء المشهد الثّقافي التّونسي بكثير من الشّعراء والفنّانين والكتّاب والمبدعين. وقد مثّل تأسيس البلدية في بداية الثّمانينات حافزا (في بدايته خاصة) لكثير من الطّاقات والكفاءات الجديدة ولغرس تقاليد المواطنة والعمل المدنيّ والثّقافيّ لدى السّكّان.
وقد كان للتّنوّعِ الفكريِّ والسّياسيّ الذي ميّز البلاد التونسية في الثّمانينات أثرُهُ في حمّام الأغزاز، حيث عجّت البلدة بالأفكار الشّبابيّة المتحمِّسة لشتَّى التوجُّهات السّياسيّة والفكريّة، وكانت، رغم حالة الاستبداد السّياسيّ وهيمنة الحزب الواحد آنذاك ورغم ما آلت إليه البلديّة في التّسعينات من تدهور وعجز ماليّ واقتصاديّ، رافدا أساسيا من روافد العمل الثقافي الذي لم ينقطع حتّى في أحلك فترات الهيمنة والقمع (في آخر عهد بورقيبة وعهد بن علي) حيث تمكّن شباب حمّام الأغزاز من مواصلة الإشعاع خاصة في مجالاتٍ مُتنوِّعةٍ: - الكرة الطّائرة الشاطئيّة التي تألقوا فيها على المستويات الوطنيّة والدوليّة، وثمرة ذلك اليوم هو ترشّح الثّنائيّ شعيب بن الحاج صالح وعرفات النّاصر الذي مثّل تونس في مسابقات الألعاب الأولمبيّة التي أُقيمت بريو دي جانيرو. - والسّينما: من خلال نادي السّينمائيين الهواة وما أنتجوه من أفلام وأشرطة نالت كلّ الاحترام والتّقدير، وخاصة ما كان من نجاح وتألّق بعد الثّورة، وهو ما تمّ تتويجه بما ناله فيلم «الأرواح المحترقة» لجهاد بن سليمان سنة 2011 وفيلم «ولد الفقر» لنضال بن حسين سنة (2012) من جوائز وطنيّة ودوليّة مشرّفة. وهما فيلمان يُلخِّصانِ ما يشعرُ به الشّابّ الغُزّيّ (نسبةً إلى حمّام الأغزاز) من أنَّه طرفٌ فاعِلٌ في تونس وغيورٌ على القيم الوطنيّة وعلى إرثِه الطّبيعيّ والحضاريّ والثّقافيّ.
مزار بن حسن