ربّما «الكافرة» تُهدى لطريق الإسلام، ولكن الناشز «ضالة» لا محالة.. وإنّ المرأة الزعيمة في الدرك الأسفل من نار النشوز.. وهذه النار لا تُخمد إلا بالوصال.. وصال من تحت إلى أعلى أين يتربع الزعيم والفقيه وولي الأمر.. وصال تتجلى فيه طاعة وابتهال وتعبّد من الراكعة لوليّها مهما كانت صفته كوليّ.. أما اذا استمرت في نشوز زعامتها فلا رادع لها غير وصمها بكل ما هو جنسوي.. حتى وإن كانت هذه الناشز مشهود بعفتها.. هكذا حاكم المؤرخون الفقهاء الرافضات لسلطة قريش.. وإن لم يكن هذا الوصم غير كاف للزعيمات فيمكن أن يصبحن بقدرة فقيه مشعوذات كإيديهيا الأوراسيا التي لقبوها بالكاهنة.. فكيف لفقيه ينسب للرسول مقولة « لا يفلح قوم ولوا على أمرهم امرأة أن يتحدّث عن زعامة المرأة بموضوعية؟ ما الذي جعل»المؤرخ الفقيه» يعمد إلى تشويه صورة المرأة الرافضة لسلطة قريش؟
اعتبرت الباحثة ناجية الوريمي أنّ «الزعامة هي أخطر نشوز يمكن أن تقوم به المرأة» ، بالنسبة للمؤرخ الفقيه، ولا يمكن أن نفهم هذا إلا إذا اطلعنا على معطيين اثنين، حتى نتبيّن سبب تعمّده تشويه صورة المرأة الزعيمة.. وهنا تؤكد الباحثة أنّ المعطى الأول يتعلق بـ»المفهوم التقليديّ للتاريخ»، أما المعطي الثاني فيتعلق بمفهوم «السلطة في ظلّ تصوّر احتكاريّ استبداديّ».. وتفسّر هذا أنّ «التاريخ بمفهومه التقليديّ هو تسجيل لأحداث ماضية ووصف لشخصيّات فاعلة بهدف الاعتبار بها: فتُتَّبَع إذا كانت تستجيب لمعايير المثال أو النموذج الذي تحدّده الثقافة السائدة، أو يُحَذَّر من اتّباعها إذا كانت مخالفة لهذه المعايير.
وترى الباحثة أنّ المؤرخ الفقيه «وجد في المادّة الإخباريّة المتداولة حول الفترة المرجعيّة حسب رأيه -وهي فترة الإسلام المبكّر- «حقائق» تصوِّر تجارب قياديّة كانت بطلاتها نساء. وفي منطق الاقتداء الواجب بما جدّ في هذه الفترة المرجع، يصبح من المشروع أن تتزعّم المرأة الشأن العامّ، ومن الممكن أن يُجادَلَ التصوّر الذي يضبطه لانتظام المجتمع ولتوزيع الأدوار فيه. إنّه تصوّرٌ يختزل المرأة في ما سمّاه بـ»المرأة الصالحة»، وفي ما سمّيته «بأنثى الفقيه»، ومفاده أنّ المرأة النموذج هي التي «تغضّ الأبصار، وتخفض الأطراف، وتجرّ الذيول»، من ناحية؛ و»تحسن خدمة الزوج، وتطيعه، وتحفظه في ماله وعرضه، وتستجيب بشكل غير مشروط لرغبته»، من ناحية ثانية»
تجارب الزعامة النسائيّة مستفزّة للمؤرّخ، هكذا توصّف الباحثة المؤرخ الفقيه من ناحية علاقته بالمرأة الزعيمة، وتعتبر أنّ هذه الزعامة تهدد «نموذجه الأعلى ولشكل الانتظام الذي يراه للمجتمع» وتضيف:»لذلك سيحكم عليها بالفشل والسّخْف والبدعة، حتّى تكون عبرة لمن يقبل بزعامة المرأة. واللافت للانتباه أنّ الاختلافات السائدة بين الفقهاء المؤرّخين بحكم تباين انتماءاتهم المذهبيّة، غابت في هذه النقطة بالذات وتحوّلت إلى «إجماع» بينهم على سلب المرأة كلّ فاعليّة في الشأن العامّ، مقابل الزجّ بها في مجرّد شأنهم الخاصّ: «الخدور». ولذلك وجدناهم يستعملون ذات الاستراتيجيا الخِطابيّة: التشويه عن طريق الوصم الجنسويّ، والتهميش عن طريق ضآلة المساحة النصّيّة المخصّصة لها، والتغييب عن طريق عدم إطلاق أسماء الزعامة عليها. وفي الحقيقة لا تفعل هذه الاستراتيجيا الخطابيّة إلاّ أن تكشف عن وحدة آليّات التفكير في عقول الفقهاء المؤرّخين رغم الاختلاف الظاهر أو المعلن بينهم. إنّهم يسعون إلى إنتاج معرفة تاريخيّة معياريّة، بها يثبتون «صحّة» تصوّرهم للنظام الاجتماعي الأمثل. لكن يبدو أنّ هذه «المعياريّة» تسبّبت في خلق تباين بين صورة المرأة الزعيمة في خطابهم الرسميّ المكتوب، وصورتها في الخطاب الشعبيّ الشفويّ، هذا الخطاب المتنصّل من الرقابة ومن التوجيه الماقبليّ للدلالات».