• إشارة واردة:
«بالأمس كنا نُنادي:
يا حرية , يا حرية
يا فتنة الشعوب وعدوة المستبدين
ومرتع الآمال ومسرح النفوس وشفاء الصدور وحياة الممالك , فلما استجابت لدعائنا وأقبلت برضاها علينا تجاذبنا غدائرها وتنازعنا حلـــيـّـها ووصلنا القيود التي فكتها عن سواعدنا لنشد بها سواعدها ...»
( كتاب الصّحائف السود ص 77)
• إشارة لطيفة وجارحة :
« أنا تركي وأبغض عباد الله إليّ تركي يَعْتدي».
• إشارة لازمة:
«إذا جرى بين العرب والترك شرٌّ أكون يومئذ بمعزلٍ عن كليهما داعيا عليهما بالفَشل معا».
(1)
انّ اليوم انما هوّ ابن الأمْس ولِكلّ أمْسٍ أمْسه ولكلّ يوم غدُه...
كنت ذات فجر تونسي قد استيقظتُ لأبحث عَــبر «جوجل» الذي يحْلو لي أن أسميه «جبريل الرقمي», أبحثُ بلهفة المشْتاق الحِبْري عن كتاب «خطير جدا» كما كان يحْلو لي أن أصِفة في محاضاراتي المفتوحة للجميع في ثمانينات القرن الفالت, هو كتاب قد ضاع مني ضمن ما ضاع من مكتبتي المنهوبة من قبل لصّ مَوْصوف من لُصوصِ اللحظة النّوفمبرية التونسية والمنتسبين «للصّحافة النّقابية»... ظلما وعارا وعدوانا على أكبر مؤسسة مدنيّة وطنية ... أقصد الاتحاد العام التونسي للشغل العتيد ..
كتاب , هو كتاب / كنز «مفيدٌ» حقّا كذلك وأيضا لأعْـتـَمد منه شاهِدا طريفا حول اُعتباطية السلطة السياسية في الفضاء العربي الإسلامي زمن أخَذ العقل في التكلّس والتيبّس والتّحجّر المقيتِ القاتل واستشراء البَهامة الـمُفاخرة بـبهامتها وانْــحِلاَكِ أفقها الحَضاري العام حين نزلتْ تدَحْرُجا بالإنسان دون المرتبة التي للحيوان . عنوان الكتاب المبحوث عنه :» التنبيه على حدوث التّصحيف « وهو لحمزة بن الحسن الإصفهاني من القرن الرابع للهجرة / العاشر للميلاد (280هـ/ 360هـ). العَصْر الذي يصفة آدام متز « بعصر التنوير العربي» . لقد شاء جبريل الرقمي الكريم أن يضَعَ أمامي كُتــيّبا كان قد أهْدانيهِ أستاذي طيب الذّكر بقفصة أستاذ التاريخ والجغرافيا صديق التّلاميذ جميعا الراحل عبد الوهاب الهمامي وأنا لازلتُ حينها تلميذا في السنة الخامسة ثانوي , عنوان الكتاب « الصّحائف السود « وهو من تأليف وليّ الدّين يكن . فبمجرّد أن صادفني العنوان طارت بي ذاكرتي وحطّت بي أطيارها عند فصول الكتاب فصلا , فصلا فشهقتْ روحي وترحّمت طويلا على روح أستاذي وشرعتُ في قراءة الكتاب اتقلّب مع صفحاته, أذْهلُ حينا وحينا أدهش لجرأة وجَراءَة الكُتاب الأحرار - وما أندرهم - الحالمين «بالنهضة» الحق والحريّة
الحق والإطاحة بثقافة التكلّس والاستبداد وقهر الإنسان للإنسان باسم» قداسة التقاليد والملل والأديان «فدشّنت الحضارة العربية الإسلامية مرحلة» سيزيف «كما ورد الأمر في مسرحية لنذير العظمة «سيزيف الأندلسي»... وهاهي أوطان العَرب « تنْدَلِسُ» أندلسٌ وراء أندلسٍ ... وربما بلا أسف ..
(2)
يقول ولي الديّن يكن في مقدمه كتابه :« الصّحائف السود» مقالات نشرت في جريدة ( الـمُـقطّم ) الشهيرة متتابعة أردت أن أنتقد بها بعض ما يقع في معترك هذه الحياة .. ومن فصول « الصّحائف السود » حملة الكاتب العنيفة ضد عنف «التعصب « واستشراء « ثقافة التكرار والإجترار» فيكتب ضمن ما يكتب عن « الكهول والشباب» و«أكذوبة أفريل وأكذوبة رمضان» و« العمال في البلاد العثمانية » و« حرية التفكير » و « الإسراف» وآخر صحيفة في « الصحائف السود » انما هي حول «الشّقاق» وهي التي تعنينني حين هذا الحين رأسا في زمن الخلاف بين مجمل العرب والأنراك . فكيف شخّص صاحب « الصّحائف » الحال والأحوال . انّ اليوم انما هو ابن الأمْس ولكلّ أمْسٍ أمسه في الذاكرة والوجدان ...
(3)
« تركي وجَعٌ في قلبه فهو ينادي اخوانه العرب :
مهلا بني عمّنا مهلا موالينا / لا تنْبشوا ما بيننا كان مدْفونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم / وأن نكف الأذى عنكم وتَأْذونا
الآن لما أمال الله عمود الظلم واعتدل الحكم في نصابه يبرز لنا من مكامن الفتنة من تساوى لديه حاضرٌ وماضٍ. أين كانت نخوتك أيها الناطق المرقش عنّا؟ قال الداماد فريد باشا أنطقه به اتصاله بالأسرة الحاكمة أراد تقربا بغير إنصاف ففعل . كذلك من أوتوا الجاه ونالوا الرّفْعَة من غيْر كدّ . ونحن مَاذَنْبنا حتى نُشتم وماذا جنينا حتى نُـــؤاخَذَ عليهِ ؟
أبدا نزاع بصيحات « تكسّرت النّصالُ على النّصالِ »- والعبارة للمتنبي - تزجى كل داهية نآد . اختلفتْ النّقرات والغناء واحدٌ , يشكون التُّرك , يذمّون التُّرك . عفا الله عنهم . ماذا لهم عند الترك؟
رأيت بالأمس ( بجريدة المقطّم ) مقالة مذيّلة باسم عزّت الجندي جعلها من صدره بمكان القلادة ,هذه إحدى نافثات السِّمام ,بل هي إحدى المفرقات ...
بي شجون وكنت في حاجة إلى الإفصاح . ومن جاش حمْيهُ وغلى مِرْجَله اسْتَطاب المقال . فُاجملي أيتها النّفس صبْرا عسى تنجلي غمامة هذا العارِض الـمُـتألق عن صيّب يدعُ الغُدران ويسْقي عَطْشان القيعان.
شهد الله وكل عثماني حرّ يكون قرأ لي شيئا أني لا أتعصب للدين ولا للجنس . أنا تركي وأبغض عباد الله إليّ تركي يعتدي . أحبّ العناصر العثمانية كلها وآخذ بنصار المستضعف منها . ثم أحبّ العرب حبّـا خالط الروح وجرى مجرى الدّم من العُروق . وأنا عربي الأدب والقلم , عربي النزع , ومن أغضب العرب فأنا مبغضه اولئك إخواني أغنيهم فيطربون وأحدثهم فيقبلون عليّ بالسّمع . هكذا عهد العرب الكرام بأخيهم هذا . غير أني لا أكْذبهم( فأكذب عليهم ) إني كذلك لا أحبّ من يسب التّرك ولا من يكون لهم عدوا وكذلك العرب لا يحبّون من لا يحب اخوانهم . وإذا جرى بين العرب والترك شرٌّ أكون يومئذ بمعزل عن كليهما داعيا عليهما بالفشل معا .
لا أنكر أن في الترك أناسا يبغضون العرب وإني لا أجهل أن في العرب رجالا يبغضون التُّرك . كل أمّةٍ بها سُفهاء ولا تكون أمة بأسرها سفيهة , وعقلاء الأمتين متفقون على ودّ لا يتَطرّقه تغْيير
زعم عزت الجندي أن الذين خانوا الدولة هم أتراك ثم ذكر رجالا منهم محمد علي أوّل مُؤسس للأسرة الخديوية بمصر . سامحه الله , ان محمد علي خالي , جدتي شقيقته لا تصحّ شهادتي له . فأنا أدَعُ في خيانته و وفائه لأهل الإنصاف .
لكن مصطفى فاضل قائد كتائب الحرية ومدحت أبا الدستور تركيان .الصقوقلي والكوبريلي أيضا تركيان وغير هؤلاء كثير , ان شاء ( عزّت )الجندي ذكرتُ له أسماءهم وعددت ما تيسر من أعمالهم . ومالنا والفخر بمن ماتوا..؟ نحن في حاجة إلى العمل ولسنا في حاجة إلى القول . فلينكر على التّرك , وليتهم بما شاء . كل ذلك لا يخرجهم عن العُثمانية , ومن حق العثمانية أن يكونوا كل أبنائها إخوانا مُتغاييرين لا مُتحاقدين.
أرني أيها الكاتب الجامح قلمه , تركــيّـــا يرمي العربَ بمثل ما رميتنا أنت به؟ إني أُلين لك المقال لا إكراما لك لكن جريا على آدابي وآدابي عربية ثم أخشى أن يقول إخواني العرب : ان ولي الدين ( يـَكن ) متعصبٌ وأن تذهب عني ثقتهم وهي لعمري ثقة أغلى عليّ من حياتي.
لك أن تلوم التّرك ولك أن تبغضهم إن شئت ولكن ليس لك أن تسبّهم . هذا عيب لا أرضاه لعثماني في الوجود .
اذا قرأ كلامك هذا أحدُ جهلاء التّرك وردّ عليك بما يمسُّ به قومك وتعاظم الشرُّ بين الترك والعرب وتَساقُوا كؤوس الموت وخلت الديار وجرتِ الدّماء أتكون أفدْت بلادك أم تكون قد نفعْت العثمانية ؟
اذا تغلّب العرب على التُّرك أو فاز العرب على التّرك كان الخَطْب واحدا .
ما في المصيبتين واحدة تفضل الأخرى . فماذا تبتغي بهجرك ؟
آلمت قلوبا آلمها الزمان بحوادثه .أنا ما رضيتُ النفيَ سبع سنين ولا زرتُ السجن بين الأسنّة من أجل الترك وحدهم , بل من أجل العثمانيين لكني رميت في قومي بما لم أؤمل وجاءت نغمتك هذه كالملح على الجُرح. ولو استبقيت مثل هذا القلب لاستبقيت ودا جميلا.
كفى , كفى إن كانت هذه الحوادث لا تعظنا ( فلا نعتبر) أن نكون من الجاهلين فقد أضمرتْ لنا الأيام ما أضْمرت . فاكتب أيها الكاتب ., ولو ذات سوار لطْمتني...
« اذا كان منزلتي في الحبّ عندكم / ما قد رأيتُ فقد ضيّعْتُ أيامي».
من يمكن أن يكون السيد الكاتب الموجوع ؟ لعل في سيرته بعض الأسْوة للكتاب « الغاضبين « والكاتبات الغاضبات لما هم فيه من ضيق الجيب وضيق التنفس في الوطن الحبيب ؟
(4)
ولي الدين حسن إبراهيم يكن / تقول بعض «الموسوعات»: شاعر مصري من أصل تركي ولد في مدينة «إستانبول» التركية في عام 1873م، ثم ارتحل مع أبيه إلى مصر، وقد عرف اليتم وهو طفل في السادسة من عمره لما توفي والده، انتقل لكفالة ورعاية عمه «علي حيدر» وزير المالية الذي اعتنى بتعليمه وتعريفه بالأدب العربي، وقد التحق ﺑ «مدرسة الأنجال» وهي المدرسة التي أنشأها «الخديوي توفيق» لتعليم أنجاله وأولاد الأمراء والأعيان ثم انتقل إلى «مدرسة مارسيل» وهي مدرسة أسسها العالم «فرنس مارسيل» تهتم بتعليم الفرنسية وآدابها، ثم استكمل تعليمه بعد ذلك في المدارس الأميرية
أجاد الفرنسية والتركية وبعضًا من الإنجليزية، بجانب لغته الأم العربية، وقد نشأ محبًّا للأدب العربي فبدأ في كتابة المقالات الأدبية والسياسية قبل أن يبلغ العشرين من العمر، وقد لقيت هذه المقالات صدى طيبًا لدي القراء.
اهتم بمسالة إصلاح الحكم أملًا في النهوض بالدولة العثمانية وإصلاح أحوالها التي أصيبت بالضعف في أواخر القرن التاسع عشر، وهو الأمر الذي أرجعه لعدة أسباب منها؛ الاستبداد، والتضييق على الحريات، وقد دعا لأفكاره هذه في «صحيفة الاستقامة» فلم تعجب جرأتها القائمين على الحكم في «إستانبول»؛ فتم منع تداولها في الولايات العثمانية، حتى اضطر صاحبها إلى إيقافها، ولكنه واصل نشر مقالاته النارية في جرائد «المشير» و«المقطم» و»القانون الأساسي».
وحاولت السُلطات إسكات مطالباته المستمرة بالحرية فقبض عليه وأرسل إلى السجن بعض الوقت ثم نفي إلى مدينة «سيواس» التركية حتى عام 1908م، حيث أعلن الدستور التركي وأفرج عن المعتقلين السياسين، ليعود يكن لإستانبول ثم إلى مصر حيث استقر بها حتى نهاية عمره
كانت موهبته الأدبية خصبة فياضة؛ فقد تنوع إنتاجه الأدبي ما بين المقال والرواية الاجتماعية، بالإضافة لقصائده الشعرية التي تميزت بسلاسة الأسلوب وسهولة الألفاظ، والتحرر من قيود السجع والمحسنات المتكلفة التي كانت شائعة في هذا الوقت، وقد جمع أخوه يوسف يكن الكثير من أشعاره بعد وفاته في ديوان صغير.
توفي عام 1921م بعد صراع مع المرض».
(5)
« لم يعد يعنيني من أربح
ولا من أخْسر
من كل الذين أحبّ بلا استثناء
من يريد ان يمتحن دونجوانيته الهائجة
او من تُريد ان تَـمتحن « اليــــكريتها « المائجة
ايضا فليكن ذلك بعيدا
عن سمائي وأرضي
جسدي هو دليلي
العاطفي الوحيد
وبالتحديد قلم شهوتي
يعرف من تكذب عليه
وان تجمّلت بأجمل مجازات
البديع ومَـحارات اللغة
لا تزايدوا عليّ بحب الله
ولا بحبّ البلاد
ولا ترددوا على مسامعي عبارات
مممجوجة كما عبارة :
«مناضل في المجتمع المدني»
(6)
انّ اليوم انما هوّ ابن الأمْس ولِكلّ أمْسٍ أمْسه , ولكل يوم غده.
لقد وهبني جبريل الرقمي نفيسة نفائسي المحلوم بها كتاب « التنبيه على حدوث التّصحيف». وها إني ّ «آكله» بشراهة «تُعاشُ ولا تُوصف» / أنا بخير / وطني بخير ... علنا فعلا كذلك ولا ندري / سلاما بعض «حَرمْلك» الصّحافة التونسية ...