« لا تنسَ قبلَ كلّ شيءٍ وبعْد كلّ شيءٍ واجِبك بأنْ تـُحِبَّ نفْسَكَ».
• اشارة من الشاعرة التونسية سامية الأمين:
(1)
ما الذي ينقص «الشّعب التونسي». ليكون متصالحا مع ذاته , حضارة راسخة وتاريخا.. عامرا؟
وما الذي ينقصني شخصيا لأبرم “ معاهدة سلام دائم “ بيني وبين نفسي والوطن؟ وأنتَ ؟ وأنت ِ؟ وهـُم ؟ سؤال يفتح على قطعان من الأسئلة التى تخترق أقصى الحجب...تختفي وتعود بين الحين والآخر هذه الأسئلة كلما داهمت الوطن “ ملمّة” من الملمات وما أكثرها .لقد صادف أن أجابت عن سؤالي العام واحدة من شقيقاتي في التراب والنشيد الوطني وهي شاعرة ومربية تقيم خارج جغرافيا البلاد . إجابتها كانت وفق الصياغة التالية - أحتفظ باسمها احتراما لها لأني لم استشرها - كتبت تقول:
«الشعب التونسي: أغلبه كسول متقاعس اتكّالي, طاقته سلبيّة مَغرور يحْتقر غيره من الشّعوب وهو في الحضيض لا يـُحب لغيره ما يحبّ لنفسه
ضيّق الأفق وطبعا في خِصامٍ دائم مع الذُّباب والناموس والأحـْجار والأشجار والبشر, بكل بساطة لأنه غير مُتصالح مع نفسه
وليتصالح معها عليه أن ينْقص من الحِقد والحسد والإتكال والتمارض».
انتهى قول السيدة الشاعرة الغيورة حقا على صورة شعبها و لا أنكر على نفسي بكوني غضبت كثيرا للصورة التى يكونها بعض التونسيين عن «أنفسهم» وهم كثْر فكانت إجابتي وفق الصياغة التالية :
طيب / وهل تسبب الشّعب التونسي في الحروب مثلا..؟ هل أنّ الشعب التونسي “ ابن عملية جراحيّة على الجغرافيا وتحيّل على التاريخ ؟ ألا يموّل الشعب التونسي الكثير من بلدان الخليج والعالم بأرقى كفاءاته في التعليم والطب والصيدلة... والملاحة والفلاحة... وسائر العلوم الدقيقة وا الإنسانية طلبا «للعملة الصّعبة».... آه العملة الصعبة وننسى أنّ اصعب عملة صعبة على الإطلاق انما هي «الرسمال الدّماغي» ... أما الحسد فلا أعرف على ماذا يمكن ان يحـْـسد التونسي العرب ،،، كلّ العرب مثلا ؟ على عوائد «زيت الصخر»؟! على تاريخهم السياسي المشرّف للحضارة البشرية ؟ على طريقتهم في قتل الزعماء ..؟ على تصديرهم للدواب السوداء ...؟ على كل دمت حرة وفك الله غربتك أيتها السيدة الشاعرة , شقيقتي في التراب والنشيد الوطني ...
(2)
اليوم وعند هذا الفجر التونسي الشّائق الرّائق تذّكرتُ ما كانتْ قد كتبتْ لي شقيقة مِصرية قُبيل «الثورة التونسية» وهي لا تَعرفني ولا أنا أعرفها, كتبتْ لي أم سلمى الحكيمة الإسكندرانية السّاخرة كما يحلو لي أن اتربـّـجَ بها وهي تتبرّج بلغتها الرهيفة, كتبت لي: «فلتكن أحلامكم محتشمة»... ولم تكن أحلام التونسيات الحرائر والتونسيين الأحرار «محتشمة» حين لهجوا بأشعار و رفعوا شعارات “ ارادة الحياة “ :” خبز , حرية, كرامة وطنية “ ... “ الشّغل استحقاق يا عصابة السُّراق” وشعارات أخرى لا علاقة لها “بالتّدافع” ولا بالإختصام بين الارض والسماء التى “ تركوها للملائكة والعصافير “ ... كم كانت تلك الشّعارات علامة صحيّة في الحاضر الحضاري التونسي لكن سرعان ما عاد “ المكبوت الجرائمي “ ليَفْــتَكّ ويَفْتِك بالمحلوم به شبابيا... فمرضت أغلب النفوس .. وضاعت البوصلة الجماعية .
(3)
متى تودّع النفوس التونسية - كما سواها - رضوضها وأمراضها وتُـميتُ إرادة الموتِ فيها وتـَحْترم وفاء وإجلالا دماء الشّهيدات والشّهداء لئلا تخون ما حلموا به وهم يودّعون بشهقة عالية أرْض هذه الأرض وناسها».؟ يقول الحكيم الدانيماركي الحزين والمرح على طريقته سورين كيركغارد يقول : « يموت الطاغية وينتهي حكمه, أما الشهيد فيموت ويبدأ حكمه». حكمة جميلة من حيث صياغتها غير أن الوقائع المعاينة والحوادث المشاهدة عندنا تثبت عكس معناها ... وتجرفني اسئلة وأسئلة : هل يحبّ الشّعْب اُلْــتوّنسي نفْسه بما يليقُ بقامته الحَضاريــّة ومَقامِه ؟
هل أنا أطلب « المستحيل التونسي » وهل ثمّة «مُستحيل تونسي» ؟ وما هو هذا «المستحيل»؟ لا أجد إجابة . تبقى اسئلتي مُعلقة كما هي معلقة «أحلام ثورة الشباب»؟
(4)
«من يـُصرُّ على الإنتصار يقْترب جداً من النّصر». هكذا يقول واحد من الأمثال التى تنسب إلى (روترو) وإلى أكثر من واحد من بينهم طاغور الشاعر الكوني العظيم ليذهب بالقول أكثر فأكثر:
سأل الممكن المستحيل : أين تقيم أيها المستحيل؟ فأجابه المستحيل:
«اني أقيم في أحلام العاجز» عبارات حكيمة هي كانت بالنسبة لي بمثابة “«المرشد» والدليل السلوكي / النضالي و«البوصلة الثورية» إلى جانب عبارات أخرى كالتى تنسب للحكيم الصيني ( لوتسو): رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة» وأختها التى تعزّ كثيرا على نابوليون بونابرت :لا مستحيل تحت الشمس» . أو تلك التى صدّرت بها أول كتبي الذي مزّقه و أحرقة «اخوان بعضهم » في أكثر من جهة وفي أكثر من مدينة والعبارة هي كما هي «دافعوا عن عقولكم كما لو كنتم تدافعون عن حصون مدينتكم».كنت أطلب من « أحفاد سقراط» و«حَفيداته» في كل المعاهد التى درست فيها( المتلوي / الوردية / طبربة / قرطاج حنبعل / قرطاج الرئاسة / باب الخضراء / مقرين / قصر - قفصة / بن عروس كنت أطلب من «الفتيان» تدوين تلك الحكم لطيفة العبارة وشاهقة المعنى , تدوينها في الهوامش التى كنا نسميها “ الهوامل والشوامل “ ملتمسا منهم بكل أدب أن «يحفظوها عن ظهر عقل» . فهل أنا التونسي كما تشهد بذلك بطاقة هويتي في هذا الزمن « البوست ثوري»/ ما بعد الثوري ... هل أنا أطلب «المستحيل التونسي» وهل ثمة «مستحيل تونسي» “ ؟ وما هو هذا « المستحيل»؟ ومن يملك مفاتيح قلاعه؟ أم تراني «أقيم في أحلام العاجز» وأكابر؟
(5)
كتبي على قلتها وكتاباتي مسروقة رقميا وورقيا منذ حوالي ثلاثين سنة في تونس وفي بلاد العرب من قبل المنتسبين لليسار ظلما واليمين قهرا... ولا أحد صرخ ولا احتج... ولا قال هذه جريمة... ولا هذا «حرام»... وحين يتــمّ السّطو على كتاب واحد لكاتب من الجهات المترسّمة في الرسميات التعيسة ولوبيات التقحّب الثقافي السافر والسافل والوجاهة والمال ... يصرخون ويولولون...ويبكون ويستبكون ... ما احقرهم ويكابرون « كما باعة «المقالات الصفراء في مناسبات الخيبات الدينية تجد الواحد منهم وقد مدّ «زمزمته» في أكثر من أربعة جرائد تونسية ... وهو «يــَخْرم» و«يَسْتَخْرم» بالمعنى الشوارعي للكلمة ويُصْبعُ وقائع التاريخ بحثا عن «شعرة معاوية بن أبي سفيان وما دار من أحداث في «واقعة الجمل» وكيف كانت أحوال «عائشة أم المؤمنين» الأميين ويفتي في شان «المصافحة بين المصلين بعد الصلاة أحلال هي أم حرام» ! وما شأني شخصيا ان تصافحوا أو تناكحوا .. يا لكم يفلحون في فلاحة «القضايا الزائفة» هروبا بالرأي العالم الى ثقافة الصحراء القاحلة...كدت أنسى فلاحة عواطفي وانسى الرد على رسالة شاب تونسي حر في الغربة ..
(6)
إلى فتى أمستردام التونسي: كريم العوادي
تحية تليق بمقامك عندي وبعد:
أربكتني برسالتك حول حالي وأحوالك وأحوال الغربة وتونس وأخجلتني ... وفتحت جروحا وجراحات... كنت قد ظننتها نامت مرة واحدة وإلى الأبد وأنا أتابع مكتوبك ... وكأنما أتابع شريطا حقيقيا ...وأكاد أشتم رائحة الكتب ... في تلك المكتبة التي سطوا عليها ... وأراك وأنت تـَكْتب ... وأنت تتصفّح الكتب ... وأسمعك تضحك من وقائع السرد الدونكيشوتي ... وأراك تمدني بمخطوط كتابك «البكاء بعين واحدة» ... وأراني أُجَرُّ من «أمام المسرح البلدي» إلى «شارع قرطاج».. أراك تعدُّ بعض نصوصك لجريدة « الصّحافة » .. أو لجريدة «القدس العربي» وأراني في عزلتي ... وأراك تجوب الشوارع وحدك مع فكرة أو مجاز .. يا لتباريح الذاكرة التي أرْغب أن تُصاب بالسّكتة العاطفية فأنسى وأذْهل عنْ كل ما لا نـُحِبُّ لذواتنا والوطن بوصلة القلب ... لنَــمْنح أطيار الخيال الخلاّق فرصة الجولان الحر في سماء الوطن المتحرر أيها الفتى الحر: سعيدٌ هو القلب الحرّ حتى بأوجاعه . الأوجاع رفيقة طريق لا تخون : تتعهدنا بالكساء حين الشتاء العاطفي ... وتمنحنا فرصة للرقص حتى من شدة الألم ... حين الربيع... وتذهب بنا رفيقتنا الأحزان ... إلى جغرافيات لم نتخيَلها . ... اخدر يا شقيق وردي أن تقول عنك بأنك « سيئ الحظ » .. أيها الفتى القرطاجني لأن أهلك أهل قرطاج كانوا « يُعاقبون من يقول عن نفسه بأنه منكود الحظ والطالع » . كنتَ قد طلبتَ منّي أن أمدك ببعض صفحات من متون الأدب تـُحبّب للنفوس الهشّة وقائع الفراق لتتحمّل الغُربة ووحشتها وإن هي أحيانا أسلم للروح والجسد . والسلام السلام والرحمة الرحمة لروح صاحب « يتيمة الّدهر « ومن أقصد غير «الثعالبي» ومعذرة ان أنا تأخّرت عن الرد .
قال بعض الظرفاء: في الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأوبة، والسلامة من الملل، وعمارة القلب بالشوق، والأنس بالمكاتبة. وكتب آخر:
جازى الله الفراق عنا خيراً، فإنما هو زَفْرة وعبرة، ثم اعْتصام وتوكّل، ثم تأميل، وتوقّع. وقبح الله التلاقي، فإنما هو مسرة لحظة ومساءة أيام، وابتهاج ساعة واكتئاب زمان. وكتب آخر:
إني لأكره الاجتماع محاذرة الفراق وقصر السرور. ومع الفراق غمة يخفيها توقع إسعاف النوى، وتأميل الأوبة والرجعى.
وكتب آخر: لو قلت إني لم أجد للرّحيل ألماً وللبيْن حُرقة لقلتَ حقاً.
لأني نلت في ساعة الفِراق من طيب اللقّاء وأنْس العِناق، ما كان معدوماً أيام التلاقي.
وقال أخر :
من أراد أن يسمع ما يقْطر منه مَاء الطّرف فليسْتنْشد قول محمد بن أبي محمد اليزيدي في تحسين الفراق:
فيه غمٍّ، وفيه كشف غُمـوم
ليس عندي شَحْط النوى بعظيم
أشتهيه لموضِع التـّسـلـيم
من يكن يكره الفراق، فإنـي
ورجاء اعتـنـاقة لـقُـدومِ»
إن فيه اعـتـنـاقة لـوَداعٍ
(7)
ان ما ينقص الشّعب التونسي هو أن يحبّ نفسه بما يليق بقامته الحضارية ومقامه في الحاضر رغم الكدمات والأوجاع ... لأنّ الشعب التونسي ليس ابن عملية جراحيّة على الجغرافيا وتحيّل على التاريخ عليه أن يتّحد جماليا... مع نفسه ولا يعوّل على من يمكن لي تسميتهم بلا ندم « ساسة العَطب « أما ما ينْقصني شخصيّا فهو لا يــنـــقص من شأني وإن هو شأن شخصي. تحيا الحريات الشخصية ضد الجواسيس اللاّهوتية...
« لا تنسَ قبلَ كلّ شيءٍ وبعْد كلّ شيءٍ واجِبك بأنْ تـُحِبَّ نفْسَكَ» هكذا قال الحكيم أيها الشعب التونسي العظيم بحرائره وأحراره.