وفي رواية أخرى «مات النبي وهو في حالة سكر»... «وقد أكلت جثّته الكلاب والخنازير ولم تُبق فيها إلا رجلا».
روايتان عن حياة الرسول، من ولادته إلى مماته، لا يُصدّقهما عاقل. فالأولى تتحدّث عن رضيع سيُقضّي أربعين سنة من حياته كأي إنسان عادي لا يمتاز عن غيره من الناس بأي شيء ولا يعرفه غير أهله وبعض الأصدقاء. أما الثانية فتتحدّث عن وفاة شخص دخل التاريخ من الباب الكبير وله من أفراد العائلة ومن الأصحاب ومن الأنصار ما يجعل وفاته غير ممكنة في الحالة التي وُصف بها، بعيدا عن الأعين.
وبين الروايتين مئات من السنين ومئات من الروايات التي تحاول رسم حياة الرسول بما فيها من تناقضات وخيال تجعل الباحث عن الحقيقة كمن يبحث عن إبرة في كوم من التبن.
في تصريح لهالة وردي حول كتابها «أيام محمد الأخيرة»، قالت بأنها قضت ثلاث سنوات في البحث والتدقيق لتأليفه. قرأت هذا التصريح قبل أن أقرأ الكتاب، ورأيت فيه، صراحة، شيئا من المبالغة. لكنني، بعد الانتهاء من قراءته تساءلت هل أن ثلاث سنوات كافية لجمع هذا الكم الهائل من المعلومات الدقيقة. وأنت تقرأ الكتاب، يُخيّل إليك بأنك تكتشف معلومة جديدة دقيقة وواضحة في كل سطر، معلومة من تلك المعلومات التي حرص الأوّلون، مشائخ الشريعة و»علماء» الكتب الصفراء، على طمسها وإخفائها احيانا، وعلى تزييفها وتطويعها لأغراض شخصية أو سياسية أحيانا أخرى.
فباستثناء قلّة قليلة، فإن الأغلبية الساحقة ممّن سردوا السيرة النبوية على امتداد أكثر من 14 قرنا كانوا يسردون الأحداث لخدمة أغراض سياسية أو فكرية. فأما الأغراض السياسية فهدفها تطويع السيرة النبوية لبسط نفوذ شخص أو عائلة أو فئة على دواليب الدولة. وفي هذا الصدد نذكر ما جاء في كتاب هالة وردي من أن أبا بكر الصديق سرد على مسامع عمر ابن الخطاب إبان وفاة الرسول آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، تُساعده على بسط نفوذه، علّق عليها عمر بأنه لم يسمع بها قط. وأما الأغراض الفكرية فهي تلك التي تقدّم روايات مشكوك جدا في صحّتها لتبرير آراء وإيديولوجيات مُعيّنة مثل تلك التي تترجم المنهج الذكوري في الفكر بالحط من قيمة المرأة أو تلك التي تُبيح ما يحبون وتُحرّم ما يكرهون.
ولعلّ أكبر عائق يحول دون تطوّرالمسلمين هوالاستماتة في رفض كل محاولات التجديد في المفاهيم وفي أساليب البحث وفي التشكيك في الروايات القديمة، فترى تسعة أعشار المسلمين في هذه الأرض متمسّكين بما حفظوه عن دينهم من أجدادهم الذين حفظوه بدورهم عن أجداد أجدادهم في زمن كان فيه «الباحثون» يفتقدون إلى أبسط مناهج البحث وقواعد التدقيق ووسائل الحصول على المعلومة. وحيث أن الشك طريق إلى اليقين، فإن اليقين الذي يتوصّل إليه الباحث الجدّي بالطرق الحديثة عن طريق التشكيك في المُسلّمات البالية كثيرا ما يُزعزع المُتزمّتين خوفا من إرباك إيمانهم بكثير من الخرافات المنقولة إليهم منذ قرون، فتراهم ميّالين إلى تكفير المُشكّكين في الروايات المنافية للعقل السليم في القرن الحادي والعشرين.
الجدير بالتنويه في كتاب هالة وردي، رغم أنها اقتصرت في بحثها على فترة قصيرة من حياة الرسول، وهي الفترة الأخيرة من حياته، هو أنها جمعت لقرّائها أكثر ما أمكن من الروايات حول حياة الرسول، على كثرتها وتنوّعها وتناقضاتها، ولا أدلّ على ذلك من قائمة المصادر والمراجع الممتدّة على عشرات الصفحات. وتعرضها لنفس الحادثة بالاعتماد على روايات متوافقة حينا ومتناقضة أحيانا دليل على أن العمل كان علميا وموضوعيّا يُعطي للقارئ الإحساس بأن المُؤلّفة لم تكتب لتمرير رأي خاص بقدر ما كتبت لبيان الحقائق قدر المستطاع، خاصّة وقد أماطت اللثام على الروايات الأقل انتشارا والتي عمد «الباحثون» القدامى إلى إخفائها والتنكّر لها. فنراها تُعيد النظر في كل المُسلّمات السابقة، بما في ذلك الإسم الأصلي للنبي واسم أبيه وسنه عند وفاته...
يقول الضالعون في الشؤون الدينية الإسلامية بأن هناك فئة تُسمّي نفسها «الخاصّة»، وهي فئة أولئك الذين يعرفون خصائص دينية غير منتشرة ويُخفونها عمدا حتّى لا يُؤوّلها «الجهلة» تأويلا خاطئا. ومن بين «الخاصّة»، هناك «خاصّة الخاصّة»، أولئك الذين يفقهون المقاصد الدينية العميقة ويحتفظون بتأويلاتهم في ما بينهم. ومن الأمثلة المعروفة في هذا المجال أن بعض فطاحلة الدين يشربون الخمر خلسة في الوقت الذي يجهرون فيه بوجوب تحريم الخمر، وذلك اجتهادا منهم بأن الخمر غير محرّم وإنما يجب تحريمه لعامة الناس حتى لا يُكثروا في الشرب فيبثّون الفوضى في المجتمع.
هالة وردي قرأت لنا وأطلعتنا على روايات «الخاصة» و»خاصّة الخاصّة» بخصوص ما شاب حياة الرسول وعائلته وأصحابه من شوائب، بتفاصيل دقيقة موثّقة، ممّا أخفاه عنا الأوّلون واللاحقون ممّن امتهنوا دين السياسة وسياسة الدين.ورغم دقّة البحث، فإنها لا تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة. لكن الكتاب سيكون حتما مرجعا على غاية من الأهمّية باعتباره كُتب بدون حسابات دينية ولا إيديولوجية ولا سياسية.
فإلى الذي لم يقرأه بعد، أقول بأنه فرصة نادرة للاطلاع على تفاصيل هامة من حياة الرسول والمسلمين الذين عايشوه، كُتبت بشكل علمي دقيق بقلم مُختص وبأسلوب جذّاب يميل إلى أسلوب الروايات الأمريكية الحديثة الناجحة، ممّا يجعلك تلتهمه التهاما وتأسف لنهايته.
وإلى الذين قرأوه واغتاظوا لكثير من تفاصيله التي تُبعثر أوراق سياستهم، أقول: حبل كذبكم قصير طالما أن أقلاما مثل قلم هالة موجود لكشف ما أجهدتم أنفسكم لإخفائه.
بقلم منير الشرفي