منبــــر: ندوتا أيام قرطاج المسرحية: آفاق الإنتاج المسرحي وموليار في تونس

نظمت أيام قرطاج المسرحية بمناسبة الدورة 23 ندوتين فكريتين. وتجدر الإشارة إلى أنه رغم الريبة التي تروَّج حول انعدام «الفائدة» من تنظيم الندوات الفكرية،

فقد تم تنظيم الندوتين الفكريتين الدوليتين بنجاح ملحوظ. الأولى كانت تحت إشراف محمد مسعود ادريس وكان موضوعها «نحو آفاق للإنتاج والتوزيع في البلدان العربية والإفريقية يومي 5 و6 ديسمبر بأحد فنادق العاصمة، والثانية تحت إشراف حمدي الحمادي عضو الجمعية التونسية للنقاد المسرحيين بعنوان «موليار في المسرح العربي والإفريقي» يومي 7 و8 ديسمبر 2022 بمسرح أحد بنوك العاصمة وذلك بمناسبة مرور أربع مائة سن٨ة على ولادة موليار. وهي ندوة تضمنت ورشة تدريب على النقد المسرحي في موضوع السينوغرافيا.شارك في الندوتين مختصون في الشأن المسرحي من عدة بلدان عربية وإفريقية وغربية.
نحو آفاق للإنتاج والتوزيع في البلدان العربية والإفريقية
طرحت الندوة الأولى اشكالا عمليا على غاية الأهمية. يتساءل محمد مسعود ادريس: «هل أن الدعم العمومي المتواصل لسنوات إلى الآن كفيل بتطوير المسرح وفنون العرض وهل ضيق الأسواق الوطنية المحدودة يشجع على تواصل الإنتاج وهل الافتقار لهياكل التوزيع المحترفة وغياب الهيكلة لسوق واسعة ولشبكات توزيع تساعد على تبادل العروض هو الذي يخنق استمرار الانتاج نفسه؟» باعتبار هذا التساؤل كان الملتقى تنظيما للقاء بين خبراء من آفاق وبلدان مختلفة : من تونس (سيرين قنون) ومن فرنسا (حسان كاسي كوتاي واستال بيكو ديكان ومن كلومبيا (مانويلا فالديري) ومن اسبانيا (اليخاندرو دي لوي سانتوس) ومن الكونغو (أوق سيراح ليمياني) ومن المانيا (بوهان فلوس). وهم قائمون «على أهم حلقات الانتاج والتوزيع في أوروبا وإفريقيا ومنهم من اسّس لمهرجانات وأدار شبكات توزيع وكان وسيطا في تبادل العروض والفعاليات وحتى أسواقا للعروض». وقد كان هاجس نقل تجارب هؤلاء الخبراء مفيدا لفكرة وضع منصة تونسية تُحقق هدف تحوّل أيام قرطاج المسرحية إلى سوق تروَّج فيه الأعمال التونسية وتقلص من تعويل المسرحيين على الدولة باكتساب استقلاليتهم الفنية والمادية. وقد كان لسوق جنوب المحيط الأطلسي للفنون المسرحية (MAPAS) حضور لافت من خلال ممثلّه ألخندرو سانتوس. كما أبرز يوهان فلوس صعوبة التعرف على المنتوجات المسرحية التونسية لعدم وجود طرف يمكن أن يعرّف بالأعمال التونسية فلا بد لأيام قرطاج المسرحية أن تنظم لقاءات بين الممثلين والمنتجين المسرحيين للتعريف بأعمالهم وألا تترك ذلك للصدفة.
موليار في تونس
ندوة موليار التي التأمت يومي 7 و8 ديسمبر هي أوّل ندوة تنظمها الجمعية التونسية للنقاد المسرحيين بالشراكة مع أيام قرطاج المسرحية. كما أنها أول ندوة تُنشر أعمالها مع إلتآم الملتقى. وهي سابقة لافتة لا بد من التنويه بها. فلا بد لمجهود الكتابة أن يدوّن ويحفظ الذاكرة الثقافية التي بها تتكون هوية الشعوب ومن خلالها يتحدد مدى فعل المثقفين الناحتين للعقول والمخيلة الجماعية. فتنظيم ندوات وطرح نقاشات بلا تدوين من شأنه أن يكون عائقا في طريق التقدم والتراكم المعرفي الحافظ للذاكرة بصالحها وطالحها. فعلاوة على المؤلَّف الذي به تم تدوين المداخلات المتنوعة التي قدمت في ندوة موليار، عمد محمد المي الذي أشرف على اعداد وقائع هذه الندوة على تقديم عمل آخر هو «موليار في تونس». وهكذا فقد تمكن محمد المي بين سنة 2019 وسنة 2022 من نشر 22 عملا هم مجموع الندوات التي نُظمت في سياق منتدى الفكر التنويري التونسي، وأربعة أعمال هي عبارة عن كراسات دار سباستيان بالمركز الثقافي الدولي بالحمامات. وهذا أمر يعتبر استثناء في المشهد الثقافي التونسي حيث نجد مؤسسات ثقافية ومخابر ووحدات بحث تتمتع بميزانيات متفاوتة وتنظم أياما دراسية غير أنها لا تبقي أثرا مخطوطا لأعمالها أو وثائق مرقمنة لندواتها الفكرية والبيداغوجية. وكذلك الحال بالنسبة لأيام قرطاج السنيمائية وأيام قرطاج المسرحية التي لأول مرة في تاريخها تنتج كتابين.

يمكن اعتبار كتاب «موليار في تونس» أول مؤلف يحصي ويجمع الاقتباسات المختلفة لمسرحيات موليار منذ مطلع الثلاثينات من القرن الماضي مثلما ذكر ذلك الهادي العبيدي في مقال بعنوان «موليار حول رواية البخيل لمترجميها الفاضلين محمود بن عثمان ومحمد زروق». ويذكر محمد المي في هذا المؤلف مختلف الأعمال المسرحية التي تم اقتباسها وترجمتها للعربية وعرضها على الجمهور التونسي مثل مريض الوهم والبخيل والبرجوازي النبيل (الماريشال) ومدرسة النساء والمحتال وطرطوف (سيدي الشيخ) و(الدجال) وطبيب بالرغم عنه (الكلو من عزيزة) واقتباس مريض الوهم وطرطوف في مسرحية (طلامس وحروز وحس النقوز) وحيل سكابان، ودون جوان: ترجمة وإخراج محمد ادريس سنة 1992 /1993. وقد عرّف محمد المي بالفِرق المسرحية التي أدت تلك المسرحيات وبالمخرجين والممثلين الذي قاموا بأدوار البطولة فيها، مستعرضا المقالات الصحفية التي علّقت على تلك الأعمال وتناولتها بالدرس والنقد. والملاحظ أن أوج الاهتمام بموليار في تونس كان في فترة الثمانينات والتسعينات. وفي تلك الفترة، لم يغامر المسرحيون في تونس باقتحام بما سُمي بالمسرح التجريبي وما صاحبه من تقنيات التعبير الجسدي والسينوغرافيا الداعية إلى التخلص من سيطرة النص وتشجيع تفاعل الممثلين ومشاركتهم في التأليف المسرحي مما كان له أثر كبير على تغيير المشهد المسرحي في تونس فتقلص الاهتمام بالنصوص الكلاسيكية وهفت ولع الاقتباس وتَوْنَسة نصوص موليار وشكسبير وغيرهم من أقطاب المسرح العالمي.

طبعا، لا يمكن إنكار أهمية تدوين الذاكرة. فلا يمكن التقييم دوم سلّم تفاضل هو سلم قيم يسعى المفكر والفنان إلى وضعه باعتباره أقرب وأوفى للحقيقة والجمال والخير. لكن هذا الأمر ليس متاحا دائما إذ كثيرا ما تعارض القيم الجمالية القيم اجتماعية التي تحكمها الأوضاع وتفرضها الملابسات والظروف التي تعتمل في فترة تاريخية ما. وفي هذا السياق، فإن ما قام به محمد المي لجمع وتدوين الأعمال المسرحية المترجمة والمقتبسة من موليار يمثل لبنة أساسية لمعرفة واقعنا الثقافي وتراكماته المختلفة. فكلما سعى المجتمع إلى حفظ ذاكرته، كلما كانت أدوات فعله في الحاضر أكثر نجاعة وأشد تأثيرا. يصح ذلك بالنسبة إلى كثير من الأعمال والآثار. ولكن حين يتعلق الأمر بموليار، فإن مسألة حفظ الذاكرة تأخذ منحى على غاية الأهمية لا سيما بالنسبة إلى الجمعية التونسية للنقاد المسرحيين التي أرادت ألا يكون حضورها في الساحة الثقافية صوريا باهتا. لذلك، فإنه من الأهمية بمكان التخطيط لندوة أيام قرطاج المسرحية القادمة لكي تكون اعداد النصوص أكثر صرامة ونشرها أكثر دقة مما من شأنه ترك بصمة مهمة بالنسبة للأجيال القادمة.

وقد تمسكت الجمعية التونسية للنقاد المسرحيين التي تديرها فوزية بالحاج المزي بفكرة المحافظة على الندوة الفكرية النقدية التي تسعى أن توثّق أعمالها وتصدرها بمناسبة الدورة 23 لأيام قرطاج المسرحية. وهكذا جاء الكتاب الثاني الذي جمع وقائع ندوة موليار تحت أشراف محمد المي في 115 صفحة وبه مجموع المحاضرات التي تناولت «المسألة الموليارية» بالدراسة والتمحيص. وقد تضمن هذا المؤلف على ثمانية محاضرات تناولت وجوه موليار المختلفة مبرزة حينا طابع التجديد والحداثة في منتجات موليار وحينا آخر تعدد وجود موليار الممثل والمخرج والكاتب والمفكر والسياسي ووحدة مساره وبعده النقدي للنبلاء والبورجوازية على حد السواء.

بقلم: الطاهر
بن قيزة

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115