عوالم الصحراء والإنصات لحكاياتها والتقاط أسرارها ثم إعادة تطويعها في نص ادني متنه زاخر بالخيال.
نص مربك، يدفع القارئ لمزيد البحث عن أسماء بعض المدن المذكورة ومحاولة مزيد اكتشاف عوالم الصحراء الزاخرة بالحكايات، في «تمبايين» وهو اسم الرواية يضع نصر بلحاج تجربته الروائية ويغوص في عوالم الصحراء ويحكيها باسلوبه المميز، اسلوب يجمع الواقعي بالخيالي، هو شوق للطفولة وحنين ابتدع له قاموس لغوي مميز في رواية صدرت عن دار نقوش عربية وهي ثالث نصوصه الروائية «الأيام الحافية» و»انكسار الظل».
تمبايين الوطن والفكرة
«تمبايين» المدينة والفكرة ليست غريبة عن الكاتب فهو ابن مدينة دوز وكثيرا ما عرف «الجبّيل» (مكان متقدم في الصحراء بدوز) وتحدى رماله وسمع الاساطير المنطوقة عن المكان فتحيرت ملكة الكتابة وانساب العقل يجمع الحكايات ويحوّلها الى نصّ روائي يتداخل فيه الواقع بالخيال، سمّاه «تمبايين» حمّله بغلاف لصورة شاب باللحفة الصحراوية ينظر الى الافق وكأنها دعوة لمزيد الإنصات لحكايات الصحراء.
«تمبايين» الحقيقية هو مكان في قلب العرق الشرقي الكبير ويسميه بدو نفزاوة (المرازيق والعذارى والصابرية واولاد غريب واولاد يعقوب) كذلك قبائل الربائع الجزائرية «قارة تمبايين» تميزا له عن سائر الأشكال الجيولوجية المكونة للفضاء الصحراوي، أما تمبايين الروائية فهي جنة جميلة يصفها الكاتب على لسان شخصية العيدي الصابري ويقول «تمبايين لؤلؤة الرمل، مصفى العسل وباب القمح ونسائج القز، عنقود صخب وغناء مكنون في محيط ذهول وصمت، قال الامازيغ انه الجبل الذي يرى من بعيد وزعم بعضهم انه اسم فتاة ماتت في سفح الجبل، بنى مضاربها القديمة جنديّ روماني يهوى الموسيقى، ان مدينة اعمدتها الموسيقى والفكر والشعر والرسم لا تموت ولا تدفن» (ص95)، لتبدو مكان يغري بالزيارة واقعا وقراءة، اختار الراوي مدينة ساحرة لتكون مطمع للجميع، للحالمين بالسلطة والذهب.
في «تمبايين» تحضر الأساطير وتتماهى مع الواقع، يراقص الجنّ البشر ليصنعوا تاريخ «تمبايين» تلك اللؤلؤة التي خرّبت بسبب الناموس وحرب غير عادلة بين أهل تمبايين وأصدقاء الصحراء، تمبايين الحاضر حسب حكاية العيدي الصابري للشابين طارق ومحمود (رمز العلم والحديث) مجرد حجارة خاوية وبقايا تاريخ منسي، يحرسها الجان ويصعب الوصول اليها لعلوّ الكثبان، تمبايين يطنب العيدي الصابري في توصيفها وكأنه يتحدث عن معشوقته، في حديثه يستعمل الراوي نصر بلحاج بالطيب كل المتمّمات التي تحيل إلى الصحراء فتحضر المرجعية الطبيعية (الرمال، الرتم) وحيوانات الصحراء «الفنك،الزلمومي وزلبيح السراح والحاشي سفينة النجاة والوجود» والرياح سيدة الصحراء، تحضر المرجعية الصوفية فساكني الصحراء يعرفون بميلهم للتصوف وكره الحدود.
يشاكس نصر بلحاج أساطير الصحراء، يستحضر حكايات الإنس والجان، يطنب في وصف الريح «البحري» ريح صرصر عاتية تجتاح الصحراء في مواسم معلومة، تأتي من الشرق، لا يرهبها ولا يصيبها الإعياء، كثيرا ما دفنت الرعاة والتائهين، قالت الصحراء نافثة زفيرها: لم يبق لديّ شيء تهيلين عليه التراب، ايتها الريح، ما اشدّ صبرك وإصرارك على الطمس، لا غالب ل كالا التصميم والنسيان والالتواء والتعرّج وتجيد الآثار»(ص27).
يوغل في غريق الرمل حاملا الأسطورة على كفّ الحقيقة فيتداخل الواقعي بالمتخيّل، يستفيض العيدي صوت الماضي وصوت الرواي في توصيف الحرب التي دارت بيت «اتري» التارقي و»اهار» ابن تمبايين، معركة لأجل الحب دمّرت المدينة في حرب دامت سنين، يتقن السارد آليات السرد وهو متمكن من اللغة، له اسلوبه السحري في المزج بين الوصف والحوار والانتقال بسلاسة بين الشخصيات والمواضيع، يشتت القارئ ثم يعيده الى واقعه ويصفعه بالحقيقة المؤلمة ليتضح اخر الرواية ان تمبايين الفكرة والوطن المنهوب مجرد اسطورة تسكن العيدي الصابري لا غير، هي قصص توارثتها الاجيال دون محاولة للبحث عن الحقيقة التي ينطق بها الشاب طارق «اين تمبايين التي حدثتنا عنها، لا شيء غير التهاويل؟، تلك ماساتنا اننا لم نكن قادرين على إضافة شيء يخنقنا حصار تمبايين الوهمي الذي هو في حقيقة الامر حصار مضروب على العقل وعلى الاختيار والحرية، كبّلتنا تعاويذ التوارق وبحيرات الملح الغارقة في الوهم والوهن، كبلنا التاريخ الملوّث الكاذب» (ص160).
فتمبايين الرواية مجرد أسطورة، قصة تتوارثها الاجيال وتوغل في توصيفها دون وجود حقيقي او محاولة للوصول اليها وكاّن بنصر بلحاج يدفع قارئه لمزيد البحث عن الحقائق واعادة قراءة التاريخ وعدم التسليم بحكايات السابقين فالتاريخ مسكون بالتزييف هو الاخر.
التاريخ حمّال قراءات مختلفة
تمبايين الرواية تحمل داخلها الكثير من الوقائع المشابهة للحقيقة، رواية يقدمها صاحبها بالقول»كل اقتباس أو تشابه او تناصّ مع أحداث التاريخ أو الخرافة او الأسطورة مقصودة، فالإنسان يعيد نفسه في السطو والطمع والتعطش للدماء»، ليجعل من أسماء الأماكن الحقيقية مطيته الأولى ليقنع القارئ بحقيقة ما يقصه فينطلق من «بير السلطان «بير السلطان» (بئر ماء في الصحراء التونسية شرق مدينة دوز، بئر رومانية حفرت عهد الامبراطور تاراجان وجددت خلال الدولة المرادية)، ليصل نهاية الرحلة الى «الجبيل» وينهما تحضر «الباب القبلي» و»رمال البيبان» و»واو الناموس» (اسم مكان في عمق الصحراء) .
ويصل لـ»بير بن عيسى» ليفتح بلحاج سؤال عمن تناستهم كتب التاريخ الرسمي ممن دفعوا دماءهم لاستقلال تونس، ويذكّر بهم «ما الذي حملكم على الوصول الى بير بن عيسى ليلا؟ لقد حذرتكم من فم التاريخ الابخر المحشوّ رؤوس افاعي وثعابين، لقد قتل القومية (المجندون التونسيون في فيالق الصحراء زمن الاستعمار) الطاهر بن حمد والهادي بن عمر ورفاقهم قرب بير بن عيسى، سيظل ذلك الدم المعصوم المعلق يرجمنا ويمنع عنا الماء» وتشبيه فم التاريخ بالابخر كناية الى عدم صدقه وتزييف لحقائق كثيرة توجد فقط في الموروث الشفوي والاغاني والشعر.
يواصل الكاتب فتح أبواب التاريخ بأسلوبه السردي المشوّق، مراوحا بين حكايات بلسان العيدي الصابري وأخرى على لسان بقية الشخصيات، اختار العيدي شخصيته الرئيسية وجعله عارفا بأسرار الصحراء (ذئب الصحراء) وألبسه ثوب المعرفة لينقد الواقع ويشير الى سبب خراب كل المدن «الخيانة».
« فتمبايين» سقطت لخيانة أبنائها والطامعين ذلك ما اتضح مع الأحداث انهم مجرد بيادق استعملهم الاستعمار الفرنسي ليصل إلى عمق الصحراء ويشيّد أبراجه لتصبح الصحراء الممتدة فرنسية العلم «أما اليوطنان لوبوف فكان همه اكبر وابعد من تمبايين وأهلها الذين وهبهم للتوارق، أوغل جيشه يتبعه القوم في الصحراء مشيّدين الأبراج وثكنات المراقبة في «جنّين» و»واد زار»، احيوا مجد قصر غيلان الذي بناه الرومان حصنا منيعا ومركز مراقبة، شيدوا برج «القصيرة» (برج بورقيبة حاليا) وبرج فورصا (برج الخضراء) على آخر نقطة في صحراء الايالة التونسية، رفرفت في المدى روح المركيز دي موريس حين رفرف علم فرنسا في سماء ليست له وفوق ارض ترابها رمضاء لا يطيب فيها المقام للغرباء» (ص139) وكأننا بالكاتب يقول باسلوب خفيّ الى متى الفرقة بين العرب؟ الى متى الصمت امام انتهاكات جيش الاحتلال.
«تمبايين» الرواية هي فلسطين الواقع، كلتاهما تعرضتا لخيانة الابناء والأصدقاء، وحان وقت إيقاف عجلة الزمن لمحاسبة الذات قبل محاسبة الاخرين «انزع عن الاحداث جبة التاريخ وعبق الاسطورة وسحر الخرافة فلن تجد الا الانسان المتكرر في سفك الدماء والخيانة» (ص68).
الحب التعويذة المتمردة على الناموس
تمبايين أنثى وسبب سحرها أنثى وسبب خرابها الأنثى كما تقول الأسطورة، في الرواية تكون قصة حبّ «رقية» لاتري» التارقي سبب خراب المدينة «رقية غادة تمبايين، افعى في جسد امرأة، كانت وراء خراب تمبايين خلاصة المدن وشهقة الندى» (85)، ذنب رقية في الرواية انها احبّت واختارت خارج الناموس، ذنبها أنها اتبعت قلبها وتناست العرف والعادة فكانت ضحية عقلية جماعية واعراف لا تعترف بالحب ولا تريده «لا اختيار للمرأة خارج المسموح به، لم تتكلم، لم تستعطف، لم تذكره بانها ابنته، كانت امراة خاضعة لطقوس الموت وكان رجلا يؤدي طقوس القتل، لم يتكلم فقد الكلام هدفه ومعناه، غاب الفرد، غابت العلاقات الاجتماعية والدموية وحضرت سطوة الناموس والفكرة»(ص87).
في الرواية يختار الكاتب شخصية امرأة جميلة وقوية لتكون سبب الخراب، امرأة انثى متمردة ثارت على الأعراف والموجود وأنصتت لصوت الحب، امرأة تستحق أن تقوم لأجلها الحروب لأنها قوية في مجتمعات ترفض القوة، بين حكايات «تمبايين الاسطورة» وحكايات اليوم لازال موضوع المرأة والجنس من المواضيع المسكوت عنها مجتمعيا، لازالت هذه الثنائية محرمة وكانها لعنة ازلية تلاحق النساء فقط.
في «تمبايين» يتبع نصر بلحاج خطواته الأولى في الصحراء يحمل قارئه الى عوالمها الساحرة بأسلوب قصصي لذيذ، يعرف جيدا خبايا الصحراء ويطنب في تفكيكها، يشعرك القارئ بالرهبة والرغبة في مزيد اكتشاف ذاك العالم الغريب، في الصحراء يوجد الشعر والحب والخرافة وجميعها وظفها الكاتب لصناعة نص روائي مفعم بالحب والسحر فكانت تمبايين الجوهرة مدينة ورواية.
كتاب الأحد: رواية «تمبايين» لنصر بلحاج بالطيب: سرد لملاحم النضال والحبّ وبحث عن حقائق الصحراء وحكاياتها
- بقلم مفيدة خليل
- 10:41 04/04/2022
- 1095 عدد المشاهدات
الكتابة رحلة إبداعية يحيكها صاحبها من وجع القلب وقطرات روحه المقدسة، من بيئته التي نشئ فيها وأحبها انطلقت خطوات نصر بلحاج بالطيب في اصطياد