والموت وذلك هو الموضوع الذي يعالجه علي اليحياوي في مسرحية «في مديح الموت» نص رضا بوقديدة عن «انقطاعات الموت» لخوزيه ساراماغو.
«في مديح الموت» قدمت ضمن مهرجان ايام مسرح المدينة المتوسطي بمسرح الجهات والذي ينظمه قطب المسرح والفنون الركحية، المسرحية من تمثيل كمال العلاوي وعواطف العبيدي ومحمد الطاهر خيرات وحمزة بن عون وأسامة حنائني وعلي قيّاد ورياض الرّحموني وعبد السلام الحميدي وعمر الجمل وأنور بن عمارة وهيفاء الكامل، وسينوغرافيا مفتاح بوكريع وتقني صوت شكري قمعون وتوظيب الركح لسعد الصالح وتصميم المؤثرات الصوتية صبري بوعزيزي وقيافة جليلة المداني بمساعدة أسماء حمزة وتوظيب عام عبد الله الشبلي.
المسرح دعوة للفكر والسؤال
المسرح فعل يشاكس الواقع ويعرّي قبحه وينتصر دوما إلى القيم الكونية، ولازال الطرح الديني من المواضيع المسكوت عنها في الفعل الإبداعي رغم حضور الوازع الديني لدى متلقي ومستهلكي المادة الإبداعية مسرحا أو سينما، في مسرحيته الجديدة شاكس علي اليحياوي هذا الجانب بحضور شخصية المفتي على الركح (عمر الجمل)، المفتي الذي ارتبط في ذهنية التونسي برؤية الهلال من عدمه أخرجه مسرحيا على الركح بجبته التونسية ووقاره في الهندام و اعطى مساحة للطرح الديني داخل الطرح المسرحي.
«في مديح المديح الموت» مسرحية تناقش ثنائيتي الموت والحياة بحضور معطى الموت يحضر وجوبا البعد الديني «سيدي رئيس الحكومة تحدثت عن غياب الموت، في غيابه لا يمكن الحديث عن القيامة؟ أليس بتجاسر على الله سبحانه؟» هكذا يطرح المفتي سؤاله بعد الإعلان عن غياب الموت لأشهر كما يقول نص المسرحية، يغيب الموت فيغيب معه الخوف من الحساب ويضعف معه الايمان والرغبة في الخلود فما هو دور دار الإفتاء والفقهاء في هذه الحالة؟ وكأننا باليحياوي يتساءل عن الاجتهاد في بعض الحكم ذات البعد الديني، للمفتي في مسرحية في مديح الموت صورة مختلفة، يؤمن برجاحة العقل ويبحث عن التجديد حتى وان ناقض الواقع «هذيكا خدمتنا من قديم الزمان».
طرح صورة المفتي وبهيئته الجميلة وقدرته على تقديم المواعظ والتجديد في الخطاب الديني هو احدى الرسائل التي تقدمها مسرحية في مديح الموت في عمل ينتصر للعقل ويدعو متقبل هذه المادة الفنية للتفكير اكثر والاجتهاد في تفسير النص الديني ومزيد البحث في كل المعطيات الدينية وعدم التسليم بنصوص او فتاوي صيغت في ظرفية زمنية محددة، هو دعوة للتفكير بدل اخذ المسلمّات، في المسرحية أيضا لا ينفي الاجتهاد حضور الدين لدى الإنسان، الاجتهاد باب للتجديد وليس نفيا لوجود الوازع الديني عند الإنسان فنجد إحدى الشخصيات حين تصلها رسالة الموت تقوم بالوضوء برمال الصحراء وتصلي قبل أن تفارق الروح الجسد، في المسرحية يلامس علي اليحياوي بعض الإشارات الدينية وينتصر بطريقة غير مباشرة للعقل والإنسان، فالدين معطى شخصي وللإنسان القدرة على الاجتهاد وقراءة النص دون الالتزام بقراءات القرون الماضية لان الوقائع تختلف كما أن وسائل التحليل تتطور.
السينوغرافيا والممثلين يصنعون الفرجة الصادقة
تصنع الموسيقى سيمفونية الخلود ترفع على ايقاعتها الصاخبة شعارات «لا موت بعد الموت» فرحة تنقل على الركح لغياب فعل الموت وتحقق الخلود، لكن هل أن الخلود نعمة؟ أم أن الموت رحمة في كثير من الأحيان، ليضع اليحياوي مشاهده أمام بشاعة الحياة حين يغيب الموت، فالمستشفيات ستمتلئ بأجساد منهكة ترفض الروح ان تغادرها «دكتور المريض رقم 27فاق: كيفاش يفيق وهو اكلينيكيا ميت)، ينتشر المرض والشيخوخة من خلال شخصية رئيس الجمهورية العجوز جدّا وغير القادر على الوقوف ومشهد رقص الشيوخ طلبا للخلاص، تصبح المستشفيات بمثابة المستودعات، تندثر بعض المهن مثل «حافري القبور» وتتضرر شركات التامين ويجد الاعلام مساحته ليعلن عن «البوز» ويصنع الاشاعات المبهجة والمرعبة في الوقت ذاته فالمسرحية تقوم على أساس إبراز كل المتناقضات، كوميديا سوداء تبدو مضحكة لكنها مسكونة برسائل النقد للمجتمع والسياسة.
ترسانة من الممثلين/الجنود على الركح أبدع الممثلون في تقديم شخصياتهم وقدم بعضهم شخصيتين وأكثر ولكل شخصية لباسها وطريقتها المختلفة في النطق والحركة على سبيل الذكر قدم رياض رحموني شخصيتي فيصل ورئيس الحكومة، أبدعت امينة الدشراوي في تقمص شخصيات الاعلامية (لا تنتطق حرف الراء)والممرضة (سريعة في الكلام) ثم شخصية الموت (تضخيم الصوت)، تميزت عواطف عبيدي في ادائها لشخصيتي الوزيرة والسكريتيرة مع نحت معالم كل شخصية فالاولى تتطلب الكثير من الكاريزما والقوة والثانية تتغنج وتليّن الكلمات، برع اسامة الحنائني في تقديم دور وزير الداخلية والكورينوكور، اتقن عمر الجمل شخصيات العالم (مختص في الجينات، استعمال مفردات علمية، طريقة القاء جافة)والمفتي (اعتماد على المصطلحات الدينية، صوت رخيم ليصل الى المتلقي، ورع في الكلمات) والباحث عن الموت (شخصية هاربة من جحيم الحياة وباحثة عن خلاصها)، كل الممثلين قدموا شخصيات مختلفة تتطلب الكثير من التركيز والمهارة وتقديمها وكأننا بالمخرج يضع ممثليه الجنود في حرب مسرحية وعليهم كسبها وقد نجحوا في كسب الرهان..
وقد تميز الممثلون في مديح الموت بالسرعة في تغيير الكوستيم وسرعة في تحريك الديكور ليتماشى مع المشاهد، إتقان للشخصيات وحفر في خباياها النفسية، صدق في الأداء ورقص على الكلمات هي مميزات جنود مسرحية في مديح الموت، على الركح تصنع مقومات السينوغرافيا فرجة مسرحية مختلفة، يتماهى الضوء والوانه مع الموضوع المطروح، الإضاءة تصبح كأنها شخصية خفية تساعد الشخصيات الأخرى أثناء تغيير الكوستيم، الموسيقى هي الأخرى تمتزج مع المنطوق لتكتمل الفرجة في مسرحية انطلقت من سؤال وجودي عن غياب الموت لتصل الى فرجة مسرحية يتماهى داخلها مقومات العمل المسرحي المتكامل مبنى ومعنى.
في مديح الموت مسرحية ذات طرح فلسفي لموضوع الموت والحياة، تناول وجودي لفكرة تمرد الفنان على الموت، انتصار للابداع من خلال شخصية كمال العلاوي الذي تحدث عن تجربته الطويلة في مقارعة الموت مؤكدا أنه ليس من السهل الخلود الا بالفن فكل نفس ذائقة الموت ولكن كل نفس ليست ذائقة للحياة.