هل انتابك الشعور بالفرح وانت تصنع عروستك ولعبتك بطريقة مختلفة؟ قد تختلف الاجابات، لكّن مع حبيبة الجندوبي صناعة العروسة حياة يومية، فان تكون عرائسيا فذلك معناه انك طفل لا تكبر، ان تصنع العروسة وتبعث فيها الحياة وتحمّلها معاني جمالية وفنية فهي بمثابة الخلق، أن تصنع العروسة من العدم فمعناه انك تسافر دوما الى لحظات الطفولة والشغف الأزلي باللعب.
ان تكون في حضرة سيدة تونسية مبهرة في تعاملها مع «الدمية» فذلك عنوان حظّ جميل، فحبيبة الجندوبي او «ملكة العرائس» كما يسميها ممارسو هذا الفن ذاكرة حية للعرائس ومتحف للدمى في ورشتها الصغيرة وشغف لا ينتهي بفنّ الدمى واحتفاء بعيد الاستقلال واليوم العالمي للعرائس تكون الجندوبي ضيفة «البورتريه» وهي المتحصلة على الوسام الوطني للاستحقاق الصنف الثالث في قطاع الطفولة فلنكتشف هذا العالم معها.
ولدت في بيت للحكايات وكانت جدتي نبراس الابداع الاول
هي طفلة حالمة، تعامل دماها كما اطفالها، كبرت بشغفها للعروسة شرّعت لـ«المغرب» نوافذ الذاكرة وتحدثنا عن بدايات هذا الشغف « انطلق الغرام في الطفولة الاولى تحديدا في بيت الجدّة، جدتي كانت تخرفلنا وتحكي لنا قصص الاولين وتفصّل الشخصيات بالورق، طريقتها المميزة شدتني الى ذاك العالم، جدتي كانت المدرسة الاولى ولازلت استحضر صورتها المميزة: تجلس القرفصاء على الجلد، تلبس «الفوطة والبلوزة» والسوالف على الجانبين يزيدانها بهاء، الى جانبها اوراق ومقصّ وتنطلق عملية الحكي وبعد اربعين عاما من التجربة عرفت ان عرائس جدتي لم تكن دون اسم بل هي عرائس الورق كما يسميها المختصون» بهذه الجمل تبدأ الجندوبي في الحديث عن سبب الشغف الاول بالعرائس.
تصمت قليلا، تنظر من بلور النافذة، تحادث تلك السحب الرمادية في يوم شتوي ممطر، تبتسم وكانها ترسم صورة الجدة وتستفيض في الحكي وتقول «في منطقة الحفير الحلفاوين تعلمت فنّ العرائس، خالتي الكبرى كانت معلّمة (تجيد الخياطة) كانت تشجعنا لنصنع عرائسنا من الصوف، علمتنا كيف نخيط الشعر والاظافر بالالوان، علمتنا حشو تلك القماشة بالصوف قبل ان تبدأ جدتي في سرد حكايتها».
حبيبة الجندوبي إحدى رائدات مسرح العرائس، حين تجالسها تجدك امام شخصية هادئة تتكلم بميزان، تتقن فنّ الاصغاء، سيدة زادها الشيب بهاء فحين تحادثك تلاعب خصلات شعرها مستحضرة تلك الطفلة العاشقة للعب «في الحقيقة لم نتعلم صناعة العرائس فقط، بل تعلمنا فن الاصغاء وكيفية الحديث ومجالسة الكبار والاكثر احترام الاخر ومعرفة ان لكل مقام مقال ولازلت اطبّق ما تعلمته الى اليوم».
ها قد كبرت الطفلة وكبر معها الشغف فمن بيت الجدة وخرافتها الى نادي الاطفال بباردو تحديدا السعيدية هناك قابلت معلمها الاول «سي رضا الدالي» رجل أحبّ العرائس وشغف بها ونقل هذا الشغف الى مرتادي نادي الطفل، علّمهم ان العروسة مثل الطفل الصغير تحتاج الكثير من الحبّ ليبدع صانعها هكذا تحدثت الجندوبي اما الانطلاقة الرسمية في عالم «الماريونات» كان بعد قراءة اعلان بجريدة الصباح في ماي 1976 «وزارة الثقافة تعتزم تأسيس فرقة لفن العرائس ومن يرغب في الالتحاق يلتحق بنهج زرقون» تصمت تصنع ابتسامها المميزة تلك لانها استحضرت وجه والدتها واندهاشها لحظة سمعت اسم «نهج زرقون» ورفضت قطعا التحاق ابتها بهذا العنوان «لكنني كنت شغوفة وعنيدة وذهبت الى الامتحان سرّا ونجحت ويمكن القول ان تاريخ ماي 1976 هو تاريخ ميلاد حبيبة الجندوبي العرائسية فمن يومها لم انقطع يوما عن ممارسة هذا الحلم»
حبيبة الطفلة، المراهقة كبرت مع الدمية واحبت تفاصيلها، سحرها ذاك العالم واختارته عن وعي مسارها الحياتي والمهني، في الفرقة التي اسستها وزارة الثقافة «تتلمذت على يد فنان اعتبره استاذي وقدوتي واهديه كل نجاحاتي، رشاد المناعي منذ اول لقاء شجعّنا، كنت الفتاة الوحيدة في المجموعة مع محسن الرايس و وحبيب عزوز وحسن المؤذن وعبد المجيد بن سعد، وأصررت على النجاح وتمكنت من التوفيق بين الدراسة وتعلّم فن الماريونات، ويمكن القول انني منذ ذلك الوقت انطلقت فعليا في هذا الفن العظيم.
كبرت الطفلة واحترفت فنّ العرائس
العرائسي طفل لا يكبر، كلما جلست لاحوّل الفكرة الى دمية اشعر أنني ابنة السبع سنوات التي تلاعب عرائسها وتشاغب الألوان، لكن تجربة الاحتراف تفرض ان ننضج قليلا، في الفرقة قدمنا اول عمل عرائسي عنوانه «الأم: خلق العالم في معهد العمران، صنعت العرائس في نهج زرقون بتصميم من الناصر خمير والتمارين تمت في العمران وانطلقنا في المهرجانات الصيفية من الحمامات الى المنستير لان الفرقة انذاك رائدة في مسرح العرائس، النص كان للبيبة بن عمار وسمير العيادي ودراماتورجيا رشاد المناعي ، كلهم مدارس في مسرح االعرائس كان لدي ملكة اصغاء قوية بحكم طفولتي وحكايات جدتي وهو ما ساعدني على النجاح.
في اول عمل اسند لها دور «الغزالة» لتقرر ان تكون منطلقة دائما كغزالة تولي وجهها الى الشمس ابدا، من تونس الى باريس :عام 1979غادرت الى فرنسا لانهل اكثر من هذا الفنّ، هناك جرّبت اكثر وتعلمت في العديد من الفرق والنوادي مثل club de la madlaine حاولت مزيد التعمّق في هذا العالم، وحين العودة الى تونس كنت اشتغل واطوّر مهاراتي ضمن الورشات، باب العسل، ابن رشيق ، ابن خلدون، عملت في التلفزة التونسية في برامج الاطفال حاولت إدخال العرائس ونشر ثقافتها في التلفزة إلى أن تأسس المسرح الوطني وانضممت إلى المجموعة وفي الحقيقة وجدت رجلا من رجال المسرح شجعني كثيرا على هذا الاختصاص الراحل المنصف السويسي وقدمت اول اخراج محترف «سنية والاسد العجوز» نص «ايفا استركوف» بلغاري مكتوبة للعرائس وسخر لي كل الاموال والدعم لانجاز المسرحية وافتتحنا بها مهرجان بنزرت الدولي عام 1984، قدمت قرابة 70 عرض «تقنية عرائس العصي».
تواصل الجندوبي استحضار جزء من تاريخ مسرح العرائس وتضيف «العمل الثاني كان عنوانه رحلة المفاجآت، نص رادا موسكوفا بلغارية تكتب للعرائس ثاني عرض محترف عرائسي وفي عرض اللجنة حضر سفير بلغاريا لمشاهدة العرض لأنني استعنت بشباب بلغار يقيمون في تونس لترجمة النص من البلغارية الى الفرنسية فالعربية (ترجمة عبد الحكيم العليمي)، السفير أعجب بالعرض وقدم الفرصة لبرمجة المسرحية 20عرض في بلغاريا، لكن للاسف لم نسافر لان محمد ادريس رفض ذلك بجملة (حتى نتلهى بمسرح الكبار باش نشجع مسرح لصغار) وقبرت التجربة في مغازة المسرح الوطني» لكن الاحلام لا تقبر والافكار لا حدود لها عند تلك الحالمة والمشاغبة.
ميلاد جديد مع «الدمية للانتاج»
حبيبة الجندوبي امراة كما الفكرة الثائرة يصعب تطويعها، امراة تونسية، حالمة وصاحبة مشروع، تدافع عن افكارها وتتحدى كل المعيقات لتنجح، نحتت اسمها بالكثير من التعب والارهاق النفسي والجسدي والاجتهاد، احبت مسرح العرائس فدرسته ودرّسته، اختارت طريقها الصعب وحققت نجاحاتها بفضل ارادة صلبة وعزيمة جدّ مبهرة، المراة/ الطفلة اسست عام 1990 شركة «الدمية» لتكون مساحتها الابداعية والجمالية والتجريبية في مسرح العرائس.
تتحدث عنها وتقول «اسست الشركة بعد خيبات كثيرة، وتعب اكثر، بعد اول مشاركة لي في مهرجان فارنا الدولي عام 1990 قررت ان اصنع عالمي العرائسي كما احلم، ومن يومها عملت على الدفاع على اسم حبيبة الجندوبي واعمالها خارج تونس قبل الداخل، ويمكن القول ان الدمية تاريخ ميلاد جديد، فاليوم يمكنني تطويع الدمية وتقديم أعمال دون نصوص، اكتفي بالتجربة البصرية والحركة لإيصال رسائل العروسة».
مسرح العرائس عالم مفتوح على التجريب والتجديد، ليس فقط دروس تقدّم، في الدمية علّمت الجندوبي الكثير من الشباب الاقبال على هذا الفن، تشجهم ليكونوا اصحاب مشاريع، في اعمالها الاخيرة تحاول دائما ان يكون الاخراج مشترك مع احدى ابنائها «ماكمش صنّاع، اريدكم أصحاب قرارات ورؤى فنية» كما تقول.
في الدمية ولدت مسرحيات طين، حكايات عرائس والغول والبنات السبع والامير الصغير وسيلوفان والرحلة والمعطف وحكايات أرض ومعها كتاب يوثق للذاكرة المسرحية «العرائس في تونس الذاكرة والاثر». كل مسرحية تجربة جديدة تنطلق من فكرة حتى تصبح حكاية «لا يمكنني ان اعيد نفسي ابعد عن التخمة البصرية، اريد الذهاب الى لب القصة فالاشياء الجميلة لا ترى بالعين، بل ترى بالقلب» من يتابع تجربتي يكتشف هذا».
الدمية الفكرة والانبعاث من العدم
كل شيء يمكن ان يتحول الى عروسة، القلم او الكاس او القماش والكرتون، كل ما يمكن لمسه باليد تصنع منه الجندوبي دماها، فالعروسة جزء من روح العرائسي، ويوم افشل في تحميلها مشاعري وافكاري فمعنى ذلك الفشل، فالعروسة مطية للتعبير، احمّلها افكاري، مشاعري واحلامي واحيانا نتماهى إلى مدى يصعب التفريق بين العروسة ومحركها هكذا ارى فنّ العرائس، العروسة ليست مجرد خامة، بل طاقة من الحب والجمال ومتى بادلتها نفس الاحساس ستحملك الى سماء النجاح ولن تخذلك مطلقا هذا سرّ نجاح الجندوبي في فنّ ساحر يبهر الطفل ويسرق قلب الكهل.
ان تكون عرائسيا فعليك التحلي بالكثير من الصبر لانه فنّ يتطلب الكثير والكثير من التفكير والتجريب قبل الوصول الى الشكل النهائي والخامة النهائية، مثلا مسرحية «سيلوفان» تطلبت منا الكثير من الجهد والبحث حين قررنا العمل بخامة «السيلوفان» الهشة والشفافة منها نصنع الدمى ونعبر عن الفكرة، في العمل تحدثنا عن وضعية المراة وتعنيفها في كل المجتمعات، المراة وما تعانيه من عنف حملناه لتلك الخامة الشفافة.
عملنا في الرحلة بـ«قماش يتمطط» مسرحية موضوعها المراة في مرحلة اعادة بناء ذاتها بعد بتر الثدي، كل ذاك التردد والخوف يعيشه المتلقي مع العروسة وسط القماش، هناك عرائس واقنعة اخرى هي كناية عن الاخر، وكل هذه الخامات تنسجم لخدمة الفكرة، قبلها «قلاز» اشتغلنا على الطين لابراز علاقة الانا بالاخر، فالعرائس هنا تولد فكرة ثمّ نجرّب الخامات قبل الانطلاق في العمل، ثمّ نعمل على الموسيقى وفي كل التمارين يشاركنا الملحن الشاب اسامة السعيدي تعب التمرين والتفكير لانّ موسيقاه تعوض النص المنطوق، بهذه الجمل عبرت الجندوبي عن استراتجيتها في العمل العرائسي للكهول.
«العروسة ليست حكرا على الطفل، العرائسي الحقيقي ينجز اعماله للكبار قبل الاطفال اذ تبدأامكانيات العروسة بعد ان تنتهي امكانيات الممثل، وفي اعمالي الموجهة للكبار اشتغل كثيرا على النساء وحقوقهنّ وافكارهنّ لانني في النهاية امراة واستطيع البوح بما تعجز عنه الكثيرات، احمّل مشاعري وأفكاري لدميتي واترك لها المساحة لتبدع».
للطفل الحق في فنّ يعبر عن العصر، للطفل الفرصة مع الدمية للتجريب واكتشاف تراث حكائي ثرّي «على عرائسي اليوم مزيد العمل على الطفل والانتباه للتطور التكنولوجي فطفل اليوم ذكي جدا، طفل اليوم لا يتقن الإصغاء لذلك وجب البحث عن طرق مختلفة لشدّ انتباهه للعمل العرائسي، وفي الدمية نرفض فكرة الاستسهال، نؤمن ان الطفل إنسان واع ومن حقّه علينا عمل متكامل نصا وفكرة
وتقديما».
اوشك اللقاء على النهاية،قاربت ادراج الحكايات على النفاذ، الطقس زادت ظلمته كانه يعلن عن ميعاد الرحيل، وترك المساحة للعرائسية لتعود الى دماها وبحوثها للاشتغال على جديد وبمناسبة اليوم العالمي للعرائس الموافق ليوم الغد 21مارس تقول الجندوبي «يا عرائسيي تونس والعالم، فلنتحد لاجل هذا الفن، فلنتبادل الفن والخبرات والنقد، نحن اطفال دائما فلنحافظ على الجانب الطفولي المرح فينا».
بورتريه: العرائسية حبيبة الجندوبي: امرأة نحتت اسمها بالكثير من الحب والاجتهاد .. مسرحياتها تشاهد بالقلب لا العين
- بقلم مفيدة خليل
- 11:41 21/03/2022
- 1099 عدد المشاهدات
هل جرّبت صناعة دميتك؟ هل خالجك شعور محادثة عروسة او دمية وبثّ الروح فيها ومعاملتها كإنسان؟ هل شغفت بالدمى يوما ما؟