ونثرها وإعادة تجميعها في نصّ روائي جميل عنوانه «قيزاطا» وهي رواية بمذاق السكر وجمال التاريخ كتبها محمّد معمري.
«قيزاطا» صدرت عن دار الكتاب، منذ الغلاف يحمل الكاتب قارئه الى عوالم الصوفيين وشطحاتهم، وأثناء القراءة ستضطرّ في الكثير من المرات للرقص اما لنسيان الوجع او لنشوة الموسيقى وجمالية السرد والحوار، رواية تسأل التونسيين عن تاريخهم وتدعوهم لاعادة قراءته.
التاريخ كقطعة السكر: حلو المذاق لكنّ كثرته تؤلم
يمتزج التاريخي الواقعي بالمتخيّل، تتماهى الشخصيات المتخيلة مع أحداث واقعية بأسلوب روائي مع طريقة سرد بسيطة وموغلة في التوصيف حتى تكاد تكون الرواية كمرآة تجلس أمامها وتشاهد الأحداث التي تعرفها تمرّ أمامك، هي «قيزاطا» رواية أبدع صاحبها في حياكة تفاصيلها الروائية والسردية، وعلى القارئ التهام 160صفحة ليعرف معنى العنوان «قيزاطا التي سأحدثكم عنها هي نوع من البسكويت او الحلويات الايطالية جلبها اليهود الصقليون معهم في رحلتهم الى تونس وهي ذات مذاق لذيذ، مصنوعة من دقيق الفارينة وحليب مركز، اذا اكلتها لا تستطيع الافلات من سحرها» ومن المعنى اخذت الرواية الكثير من السحر في طريقة سرد الاحداث ووصف الشخصيات.
تختلف الأحداث والتواريخ، يتيح الكاتب لشخصياته الفرصة كاملة لتبوح باسرارها وحكايتها، يرحل بعيدا في الذاكرة الى العام 1270ميلادي، ثم يعود بالقارئ الى تاريخ قريب هو سنوات 1963 الى 1967، وبعدها يصحبه الى التاريخ الحديث 2011، فالقارئ يتمتع بجولة مجانية بين خبايا التاريخ التونسي وملامح الجغرافيا يستكشف تونس التي يعرفها من خلال حوار الشخصيات، فتجده يعيد التعرف على حلق الوادي حين كانت مرفأ لسفن الايطاليين والصقيليين عام 1270ميلادي، وتراك تقف في باب بحر عشية الخميس لتلاحظ تدفق الناس «كان التدافع على اشده عند باب البحر، فكل أبواب المدينة أغلقت ولم يبق الا هذا الباب الذي يترك مفتوحا استثنائيا مساء يوم الخميس حتى يتمكن مريدو سيدي بلحسن الشاذلي من الالتحاق بمغارته، فلسيدي بلحسن مكانة لدى سكان الحاضرة والبادية»، لتكون الرواية بمثابة الجولة يفتح أبوابها روائي ذكي عرف كيف يحرك شخصياته لتشد انتباه القارئ وتجذب تركيزه أكثر وتدفعه لتحليل بعض المعطيات السياسية والاجتماعية المخفية بين السطور.
«قيزاطا» روية تتداخل فيها الأجناس الأدبية فنجد القص والحوار والسرد، رواية أبطالها كثيرون ولكل فترة تاريخية سارد يتحدث عنها بأسلوب يختلف عن بقية الشخصيات، فطريقة الحكي والوصف التي يعتمدها «بلحسن الطالب الزيتوني» عام 1270 تختلف شكلا ومضمونا عن طريقة السرد التي يستعملها بلحسن التاريخ الحديث، وكأننا بالكاتب يدفع بقارئه لمزيد البحث والتمحيص في التاريخ واختلاف ملكة الكتابة من فترة إلى أخرى.
شخصيات تختزل الذاكرة
يختار الكاتب لروايته شخصيات محورية تدور في فلكها بقية الشخصيات، الشخصيتين المحوريتين هما سيدي بلحسن الشاذلي» و«الجنرال»: الاول شخص حقيقي اختاره الكاتب دعامة لواقعية الرواية ونسج حوله شخصيات مخترعة لتساهم في عملية الحكي والبناء الروائي لنص يوغل في الواقعية ويبتعد عنها في الوقت ذاته، اما الثانية فشخصية متخيلة يوجد لها نظير في الواقع فالجنرال قد يكون الرئيس السابق لتونس «زين العابدين بن علي» إذ يترك الراوي للشخصيات الحديث عن جنرال دكتاتور ومتجبر، استطاع افتكاك السلطة بعد تعرض رئيس الدولة الى وعكة صحية وهي معطيات تاريخية تتماهى مع بن علي، لكن الكاتب اختار شخصية دون اسم وترك لها فقط رتبها العسكرية واعتمد التلميح لا التصريح.
بالعودة الى الشخصية الاولى «بلحسن الشاذلي» الولي الصالح الذي تقام له عشية كل خميس حضرة ذكر يجتمع فيها مريدو الشيخ، اختار الكاتب ان يطلق هذا الاسم على شخصيتين كل منهما يسمى بلحسن وكلاهما يساهمان في الاحداث وتحركاتها حسب أهوائها أيضا.
«بلحسن» الأول (1270ميلادي) شاب من نجوع البلاد التونسية الكثيرة، تميز في حفظ للستين فارسله والده إلى الجامع المعمور «انا من طلاب الجامع المعمور أرسلني والدي بوترعة للدراسة هنا بعد ان أتممت حفظ الستين، فان وفقت فقد حققت المرادين أنقذ نفسي من التجنيد وقد أنقذ عائلتي من ويلات الفقر»، تونسي جاء من اريافها يحلم بالنجاح ونحصيل العلم ومن مريدي سيدي بلحسن يجد نفسه وهو طالب العلم يحمل كتابا ويجلس في الصفوف الأمامية للمريدين لكنه يلكز «المكان في حضرة مولانا مقامات، وأنت لا مكانة لك» فالمقامات تحسب بما يملك صاحبها من مال لا علم لتكون الصدمة الأولى التي ستغير تفكير طالب العلم وتجعله طالب مال الى ان يجد كنزه «الأسود، الاحرش» الذي سينقله من عتبات الفقر الى سدات الجاه والسلطة والقوة «بتّ اليوم من الأخيار لا من الأفاقين الملكوزين، نعم أصبحت واحدا من التجار المعروفين، فابو الحسن التونسي أصبح من علية القوم في القاهرة يحضر مجالس الأعيان من التجار والعلماء، طوبى لحبات السكر التي حولتني من فقير معدم الى ثري منعم».
بلحسن هذا يتولى سرد فترة من تاريخ تونس وكيفية تعامل بني حفص مع متساكني البلاد وكيف كان أصحاب السلطة يتجاهلون أبناء البلاد الأصليين «يتجهالون حقيقة اننا ملح هذه الأرض وقد رفعوا مكانتهم ومقامهم بعرق جبيننا من خلال عطايا سيدنا من اموال المجبى التي كان يحصل اغلبها من الأرياف وألام الفلاحين».
هذا السكّر الذي اصبح ابيض اللون بعد ثمان مائة عام، وأصبح مادة موجودة ومستهلكة بكثرة كان سبب شقاء «بلحسن» الثاني الذي جعله الكاتب يواكب فترتين مهمتين من تاريخ تونس، اواخر الستينات كانت طفولته وتماهت شيخوخته مع 2011، نفس الشخص يواكب مراحل مختلفة يسرد احداثها بطريقة ممتعة، لكن كلا الشخصيتين تشتركان في الذهاب الى المغارة مساء الخميس « منذ ان تعمد ذلك الشاب محمد البوعزيزي الانتحار حرقا امام مقر ولاية سيدي بوزيد والاوضاع لم تهدأ، لماذا افكر في هذه المواضيع الان، ما يهمني هو كيف اصطحب شيخي الى المغارة كعادتنا كل خميس؟»
بلحسن الذي سيسرد تاريخ تونس الحديث يكون السكر سبب شقائه اوّلا لانّ احد الشيوخ كان يجعل الطفل يضع ابهامه في السكر ويترك الطفل يمتصّه لوقت طويل الى الن عرف الطفل «كنت امتصّ ذكر الشيخ لا ابهامه» اما سبب الشقاء النفسي الثاني فهو فقدان الحبيبة «مانويلا» بعد رحيلها من تونس الى صقلية ثم الى تل ابيب»، يفقد الحبيبة التي يسميها «قيزاطا» لحلاوة روحها وشكلها.
بلحسن يختاره الراوي ليكون ذاكرة تونس الحديثة، هو الاخر شاهد على السلطة فيتحدث عن الحزب الشيوعي التونسي ونضالاته لاجل استقلال تونس ويشير الى انقلاب بورقيبة على رفاق الامس « بورقيبة يمارس الغواية بالخطابة لكنه عمليا انقلابي لا يحترم تاريخ من شاركوه النضال بل لعلّهم قدموا لتونس اكثر منه» يتحدث بلحسن عن «لافيات» سنوات الستين وكيف كانت مدينة اروبية مميزة تجتمع فيها كل الجنسيات والاديان ويختار الكاتب ثلاث عائلات تجمعها الصداقة لكل منها ديانتها لكن جمعتهم تونس، ثم تسافر الذاكرة الى حرب فلسطين وتهجير اليهود التونسيين الى ايطاليا هروبا من الفوضى والعنف» كان الشعور بالخيبة يعم كل العاصمة، حتى اللذين خرجوا للتظاهر ضد العدوان الاسرائيلي كان شعور الخيبة يطغى عليهم وهاجم بعض الغاضبين محلات اليهود ومقار سكناهم»، هذه الذاكرة الحديثة اثقلتها الهزائم السياسية العربية واثقلتها هزائم المحبوبين.
لبلحسن ليس مجرد اسم بل يختاره الكاتب رمزا للوطن، هو رمز لابناء الارض والحالمين فيها، يختاره ليكون وسيلته لمزيد تحليل التاريخ وقراءته بعين مختلفة، هي عين العاشق.
هل قرأنا التاريخ؟
هل قرأنا التاريخ؟ هل أجاد أبناؤنا تفكيك تاريخ اجدادهم ليتعظوا من دروسه؟ ام انهم اكتفوا بتناقل الأخبار والحكايات؟ هكذا يطرح محمد معمري الكثير من الاسئلة عن قراءة التاريخ واستقراء الاحداث في روايته وبين السطور، فالمزج بين التواريخ والتداخل بين الشخصيات الهدف منه دفع القارئ للبقاء يقظا كامل مدة القراءة فمجرد الغفلة ربما يجبرك على اعادة القراءة منذ السطر الاول وكان بالكاتب يوقع بك في شراك حبكته الروائية.
الرواية تتداخل فيها التواريخ وتتشابك مع الواقع في كثير من الاحيان، يختار شخصيات نعرفها جيدا وربما نعرف سيرها لكن لم نتعض منها ولا من اخطائها ونجاحاتها، يختار المعمري شخصية «الجنرال» لتكون وقود الكثير من الشخصيات، الجنرال، الطفل اليتيم الذي نجح في الدخول للاكاديمية العسكرية ومنه افتكاك السلطة وبعدها التحكم في كامل البلاد استطاع ان يسكن عقول الجميع ويحركها من كرسّيه في قصره، جنرال مستبد ضحاياه كثر من المومس والمستشار الى الصحفي ورجل الاقتصاد جميعهم اغرتهم السلطة فنسوا ملكة العقل وانخرطوا كما القطيع «اعلم ان الوطن بي وبهم تحوّل الى غابة، فالماسكون بالاقلام وصوليون يريدون المزيد من المغانم والمساكون بالبنادق مجرمون وان حاولوا التدثر برداء الحاجة والنخبة تريد البقاء في عليائها تتطلع للسلطة وتسعى الى مرضاتها وانا وضّفت كل ذلك لاصنع من ضعفي قوّة».
فقوة الدكتاتور يستمدها من ضعف الرعية وطمع المتسلقين والمتملقين، هكذا تقول الرواية وكذلك تحدثت كتب التاريخ، فالكاتب هنا يرجّ قارئه ويدفعه للمزيد التفكّر واعادة قراءة التاريخ علّه يتّعلم من اخطاء الماضي، فالتاريخ واحد لكن قراءاته متعددة.
كتاب الأحد: «قيزاطا» لمحمد معمري: الرمزية وسيلة لإعادة قراءة التاريخ والسؤال عن الهوية؟
- بقلم مفيدة خليل
- 10:15 07/03/2022
- 987 عدد المشاهدات
الكتابة إبداع، ومحاولة استقراء للتاريخ واستكشاف الأسرار: إبداع آخر، والمزج بين الواقعي والخيالي يكشف عن قدرة الكاتب على التلاعب بالحروف