ام وسيلة لمزيد الإنهاك الاقتصادي والاجتماعي؟ تخيلوا ان يغيب الموت فجأة عن العمل؟ كيف تكون الحياة؟ هل ستصبح اكثر جمالا؟ ام انها ستكون نقمة؟ هكذا يتساءل علي اليحياوي في مسرحية «في مديح الموت» التي افتتحت فعاليات الدورة الثانية لأيام المسرح بتطاوين.
«في مديح الموت» مسرحية ناقدة وساخرة، عمل يطرح مسألتي الخلود والفناء بطريقة فلسفية مع تشريح للمجتمعات والسياسات على الركح.
تكثيف الصور وتشكيل وسائل السينوغرافيا لصناعة الفرجة
تختزل الصورة آلاف الكلمات، في «مديح الموت» تتراصّ الصور لتختزل مشاعر الحب والخوف والحقد والسطوة، ديكور متحرك، أبواب تفتح وتغلق، إضاءة زرقاء خافتة تتحول مع تقدم الأحداث إلى حمراء قانية كما الدماء، الصورة الأولى تبدو كلوحة تشكيلية سريالية يبدع صاحبها في تشكيل عناصرها اللونية، على الركح يقدم الممثلون قرابة العشرة مشاهد، لكل مشهد لباسه وماكياجه، لكل مشهد طريقة نطق مختلفة للجمل والكلمات وكأن اليحياوي فنان تشكيلي يرسم بالكلمات وأجساد الممثلين تحفته المسرحية.
أصوات صفارات إنذار تصم الآذان، تحريك سريع للديكور وكانّها الإعلان عن حرب، حرب ضد الموت، حرب ضد الخوف،تنطلق الأحداث من اكبر المستشفيات الحكومية باستفاقة المريض رقم 27 من موته «الاكلينيكي» فالمستشفى مليء بالمرضى والشيوخ الذين يتناساهم الموت، يحتفلون أولا بالخلود في مشهد يرفع فيه جميع الشخصيات شارة النصر هاتفين «لا موت بعد الموت» بما تحمله الجملة من أبعاد فكرية وفلسفية، فماذا لو قرر الموت الغياب لأشهر؟ كيف ستصبح وضعية تلك البلاد الصغيرة؟ سؤال يطرح على العمل بكل جرأة ويقع تناوله من جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والدينية أيضا.
يغيب الموت لسبعة أشهر كاملة، يحدث تهرم سكاني مريع، يرتفع عدد الشيوخ، ينسى الناس فعل الموت ووجوده ويفرحون بالخلود، سعادة المواطنين يقابلها تطبيل إعلامي و تعتيم حكومي وفزع بعض القطاعات المهنية المرتبطة بالموت مثل «عمال المدافن» و»شركات التامين»، ويتقن الممثلون إيصال كل هذه التناقضات بشخصياتهم المختلفة، اللوحة التشكيلية تتحرك بسرعة، يتغير الضوء والموسيقى حسب المشهد، في وجود المواطنين تكون الصورة أكثر وضوحا والديكور كثير أما في حضور رئيس الحكومة ووزرائه فتميل الإضاءة إلى العتمة وكأننا بالمخرج يريد للمتفرج مزيد التركيز في المشهد ومقارنته بالواقع السياسي لهذا البلد فالمسرح وعاء فكري يختزل مشاكل البلد ويعيد تقديمها بطريقة فنية مميزة.
المسرح فعل للمقاومة، المسرح فعل لممارسة الحياة والتعبير عن افكار مختلفة، المسرح مدرسة للنقد، نقد للواقع السياسي والاجتماعي وكذلك الاخلاقوي، في مديح الموت تفكك المسرحية العلاقات السياسية المتوترة بين رئيس الحكومة ووزرائه وتكشف عن انكباب البعض على المصلحة الشخصية وتجاهل مصلحة المجموعة، فهذه وزيرة الصحة تقبل بشروط المافيا بسحب الجنود مقابل توفير «الموت» في الدول المجاورة، وذاك وزير الداخلية يكيد لزميله ويريد الحصول على منصبه، والآخر مدير التلفزة غير عالم بتلفزته ولا إدارته ومسؤولياته، أما رئيس الجمهورية فيدافع فقط على جرايات المتقاعدين ولا يعرف شيئا عن حال الدولة ووظيفته فقط الأعياد الوطنية والتكريمات، تشعب وفساد سياسي يوغل في توصيفه كاتب النص «خوسيه ساراماغو» وكأنه يستقرئ الأوضاع السياسية في الكثير من البلدان، ليكون المسرح وسيلة لنقد هذه الممارسات ودعوة للوحدة لأجل الفكرة والوطن بعيدا عن الصراعات السياسية الفردانية.
في تداخل الفنون تلوين إبداعي مختلف
حين يغيب الموت ترتفع المشاكل وأولها التهرم السكاني، غياب الموت كارثة وعبر التاريخ لكل كارثة تجارها والمستفيدين منها، وفي غياب الموت تصبح الشركات غير القانونية التي تسهل «الموت» هي الأكثر ربحا، مافيا الموت والأعضاء هي الأكثر استفادة من كارثة إنسانية حللت بدولة صغيرة وضعيفة الموارد وكل المواضيع المطروحة قدمها ممثلين خبروا شخصياتهم جيدا، بسرعة وجيزة يغيرون اللباس والإكسسوار والديكور، أتقنوا ملامح الشخصيات فكانوا صادقين ومختلفين.
«في مديح الموت» تجربة مسرحية، إنسانية، عملية بحث في نصوص «ساراماغو» تجربة مختلفة يخوض غمارها علي اليحياوي ومركز الفنون الركحية بتطاوين، رحلة البحث عن جمالية الموت أمام قبح الحياة وبشاعتها في الكثير من الأحيان، مسرحية تؤكد انّ كل شيء نسبي، فالحياة نسبية والموت أيضا.
في مديح الموت مسرحية تتداخل فيها الفنون إذ يحضر الفن التشكيلي من خلال جمالية الصورة المعتمدة في اللباس والديكور وتوظيف الإنارة حسب موضوع المشهد، تحضر السينما أيضا فالمشاهد مفصولة وموزعة كامل العرض بالطريقة سينمائية (مونتاج وميكساج) أتقنه جيدا علي اليحياوي، يحضر الشعر عبر شاعرية الكلمة المستعملة فاليحياوي في تونسة النص اخذ الكثير من ملامح الصحراء في كتابة النصوص فكانت الكلمة بصدى شعري جميل ، الموسيقى تصنع حضورها في الفصل بين المشاهد وهي أيضا وسيلة لتقريب ملامح الشخصيات والكشف عن انفعالاتهم النفسية المخفية، جميع هذه الفنون تتراشح في عمل مسرحي ينقد الواقع والسياسة.
الفن خالد خلود الافكار
الفن لا يموت، الفنان يخلد بالذاكرة وان غادر جسده، المشهد الاخير من المسرحية، مشهد قوي ومزلزل، ربما يغادر الجسد لكن الروح تبقى ترفرف في عوالم الابداعية، شكسبير لا يموت، هاملت لا يموت، محمود المسعدي باق الى الابد، علي الدوعاجي لن تغادر نصوصه الذاكرة الوطنية، نضالات المسرحيين صانعي الفرجة والابتسامة وراسمي الامل لن تموت وان ماتت الاجساد، هكذا يحيون الفنانين والمبدعين في مشهد يجمع شخصية الموت مع الممثل كمال العلاوي، بين الشخص والشخصية تكون الحكاية، حكاية فنان يصارع الفناء بالابداع كتابة وتمثيلا، بين العلاوي الانسان والموت «الشخصية» هو يخبرها «متى يكون الموعد» لتجيب «ليس بعد» وكانها سلسلة ابداع متواصلة يتقن كتابها العلاوي على الركح، بشعر ابيض تركت صبغته السنون بالكثير من الصبر والعمل والحب.
المشهد الاخير من العملية لوحده مسرحية منفصلة بذاتها، مشهد تحضر فيه كل مقومات العرض من شخص وشخصيات وموسيقى واضاءة ونص ينطلق من سيرة فنان، مع خلفية لصوت مميز يعرفه جيدا جمهور المسرح هو صوت الممثل عيسى حراث الحاضر في العمل بصوته وروحه التواقة دوما للابداع والتجلي بنشوة الفن.
«في مديح الموت» عمل مسرحي مختلف، عمل نقدي ينتصر للحياة وللفنان ويدافع عن خلود الفنان امام موت السياسيين والعاديين، فقط من يصنعون الامل هم الخالدون.
مسرحية «في مديح الموت» لعلي اليحياوي ضمن أيام المسرح بتطاوين: بحث جمالي فلسفي في ثنائية الخلود والفناء
- بقلم مفيدة خليل
- 11:03 22/02/2022
- 820 عدد المشاهدات
«المغرب»: تطاوين - مفيدة خليل
هل أن الموت نعمة ام نقمة؟ كيف تكون البلاد والعباد في غياب الموت؟ هل أن الخلود جميل؟ هل أن الخلود نعمة أزلية