الواقع وقبح السياسة والفساد إلى أسلوب روائي جميل تنقد من خلاله واقع الكثير من التونسيين بعد الثورة وتصبح الكتابة كما المرآة التي يشاهد فيها القارئ بشاعته وانانيته تجاه وطنه وتعكس كذلك بشاعة «السيستام» في تعامله مع القانون ومع المواطن.
كل هذه البشاعة تكتبها جميلة القصوري في رواية «حياتي الاخرى» الصادرة عن دار افاق برسبيكتيف للنشر في مائة وتسعين صفحة، رواية تهديها الى «جمال كرماوي» وتطلب من قرائها اما المغامرة بالقراءة او المغادرة دون جلبة.
الكتابة نافذة على الحلم
رواية تولد من رحم رواية اخرى، من قلب جميلة القصوري تولد شخصية بختة الصحفية التي بدورها تقرر الهروب من واقعها بكتابة رواية وتخترع شخصية «راوية» لتكون الحكاءة، فبختة الام المنفصلة عن زوجها والمتهمة بانتمائها للنظام السابق تبحث عن ملجإ تهرب اليه من حجود الزملاء والاصدقاء الذين لم يشفع لهم صدقها في عملها بل تنكر لها الجميع فتقرر الهروب الى الكتابة «الكتابة شكل من اشكال الحلم، تنكيل بالقيود، تنفيس وتعويض، دموع حبيسة الدواخل تنفجر حبرا اسودا، على الورق في لحظات صدق واعتراف باننا قد نكون اخطأنا الطريق» وتختار اسم «راوية حكاءة للوجع» فتنصت الى اوجاع الانثى امراة ووطنا لتلد «الوجه الاخر للحب» وهو اسم الرواية التي تكتبها الشخصية.
تتدرج الكاتبة في السرد باسلوب مشوق، تعمد الى تشتيت القارئ لمزيد التركيز، رواية تتطلب اكثر من قراءة، تختار شخصياتها بدقة وتعطها أسماء جميلة، اغلب الشخصيات المؤثرة في الاحداث نسائية وكان بالكاتبة تفتح اوراقها البيضاء لتنصت الى بوح النساء من كل الطبقات الاجتماعية والمستويات الثقافية.
في روايتها تكتب جميلة القصوري بصوت الانثى الموجوعة، تكتب باسم الام الخائفة والزوجة المكلومة والعاشقة المنهارة والمراة الحديدية كلّ المتناقضات النفسية تجمعها القصوري وتنفثها في شخصياتها فتكون مختلفة.
احداث الرواية تدور في اكثر من مكان حسب الشخصية، تعطي لكل واحدة مساحة للحكي وتجعل القارئ نتبها للحكاية ليستطيع الربط بينها وفهم سيرورة الأحداث، لنسائها القدرة على تغيير الواقع فهنّ وان ولدن من ورق يبقون تونسيات قويات، تنتقل بينهم «راوية» لتسمع وتكتب قصصهنّ في علاقة بالأنا والوطن.
شخصيات جميلة القصوري جميعهنّ اشتركن في فعل «الحب» الذي دمر بعضهنّ وزرع الامل في اخريات من «غاية» بائعة الهوى التي سفّرت الى سوريا لتعمل بغي في جهاد النكاح، الى «صابرة» التي احبت الغريب واختات حبه وطنها، الى «غالية» المشاكسة المؤمنة بالقانون وقيم الديمقراطية والقادرة على قيادة مظاهرة بمفردها الى «ضحى» الضابطة المنتفضة على ظلم النظام والباحثة عنن بعض النور داخلها لتعالج فساد السيستام فتختار محاربته، الى «مريم» الحلم المنشود صوت الحكمة، فبختة الصحفية الباحثة عن ذاتها بعد خروجها من مقر عملها مطرودة بشبهة الانتماء للنظام السابق، الى نيروز الوليدة ابنة الشهيد جميعهنّ شخصيات تونسيات يختلفن من حيث طريقة التفكير لكنهن يشتركن في ايمانهنّ بقدرة المراة على تغيير واقعها وصناعة واقع اخر وان كان من خيال.
في روايتها تنتقل القصوري بين الحكايات بسلاسة جميلة، تعطي لكل شخصية مساحتها لتحبر حكايتها وكل القصص تتشابك مع قصة تونس الانثى والوطن.
الرواية تعري قبح الواقع
«حياتي الاخرى» مسكونة بالوجع والشجن، تحاول الكاتبة اختزال ماعاشته تونس بعد الثورة ونقله باسلوب سردي ممتع الى القارئ، في روايتها تضع الكاتبة القارئ امام قبحه وبشاعته في تعامله مع وطنه.
تونس مابعد الثورة التي وجدتها الكاتبة «سجون تفتح وتحترق غرف مساجينها، نزاعات، تغذية للنزعة العروشية والقبلية، تهديدات بالقتل، اغتيالات، مجرمو حق عام يتمّ العفو عنهم في الاعياد الرسمية، مشاكل اقتصادية، واجتماعية وسياسية لا تطاق وارهاب يستوطن الجبال وينزل بمنتهى الثقة الى الشوارع ليريق الدماء» (ص270)، تونس التي كان شعبها خارج الاحداث قبل الثورة، ليصبح في قلب الاحداث بعدها.
تونس الثورة بدل انتصارها لمفاهيم العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان نجدها غارقة في وحل «السيستام» وقذارة بعض المتمسكين بماكينة الفساد القديمة، االسيستام الذي حاول تدجين الجميع اما بالعنف او الاجبار، السيستام له قوانيه الخاصة ورجاله ومنفذيه «انا امراة علموها تطبيق القانون، قانونهم، قانون السيستام...وحتى يطمئن فؤاد «السيستام» كانت بعض التدريبات تقون احيانا على ضربنا لبعض الموقوفين ضربا مبرحا بالارجل امعانا في اذلالهم»(ص191)
هذا السيستام الذي انتصر للمغتصب على حساب الضحية كما حدث في قضية اغتصاب الفتاة من قبل عوني امن، الحكاية التي هزت الراي العام توظفها الكاتبة وتخترع للفتاة اسم «غالية» وتزرع فيها روح المراة التونسية القوية التي تتمسك بحقها في النيل من مغتصبيها، فتترك الكاتبة لخيالها حرية الغوص في تفاصيل «السيستام» لتفهم سبب تحويل الضحية الى متهمة « ملف غالية كان القشة التي تمسك بها النظام، فالبلاد في حالة غليان منذ فترة ووسائل الاعلام اشعلت فتيل الشارع والمظاهرات المنددة بالفساد والرشوة كما ان الاسئلة ما فتئت تتزايد حول اغتيال شكري بلعيد وكان يجب البحث عن عظم يقوم باشغال الرأي العام والمجتمع المدني عن القضية الاساسية وكان هذا الملف هدية من السماء» (ص213).
تمعن الكاتبة جميلة القصوري على لسان شخصيتها الرئيسية بختة توصيف تونس والكشف عن مدى انتشار الفساد والمحسوبية وفي كل مرة تحيل مهمة الحكي الى شخصية من شخصيات تخترعها «بختة» فتتنوع الشخصيات حسب ملف الفساد المقصود الخوض في شجونه، عن تطويع القوانين تضع مهمة السرد في جعبة «ضحى» و«فريد» وكلاهما من ابناء النظام
وكلاهما يكشف ان لوزارة الداخلية قوانينها الخاصة التي تتيح لمنظوريها التمتع بالكثير من صلاحيات السطوة باسم «القانون»، او «قانونهم (هي تدرك ان قضاة ومحامين ومسؤولين كبارا في الدولة يتعاطون هذا الصنف من المخدّر دون ان يلقى عليهم القبض لان لديهم حصانة المال او حصانة السلطة والقانون وان الكثير من زملائها يتعاطون تلك السجائر المفعمة بالنشوة دون اد يدفعوا مليما واحدا، هي تعلم ايضا انهم يدخنون سجائرهم من مخازن المحجوزات بشراهة في سياراتهم الادارية لان لديهم حصانة المهنة، لانهم جنود السيستام البغيض ولانهم فوق القانون ص194)، ضحى تتحدث باسم الكثير من التونسيين الذين عانوا جور اعوان الامن بعد الثورة، بوجع تفتح الملفات المنسية عن احلام اطفال سرقت وشباب ماتوا لعدم توفر جرعة الدواء واخرين سحلوا مشيرة ان تتغير الاسماء ولكن النظان يظل كما هو حتى ان طوّر شكله والبسه قفازات ناعمة من الديمقراطية والعدالة.
من فساد ممثلو القانون الى فساد من يدعون انهم ممثلي الله على الارض، اولئك الذين يغسلون عقول الاطفال والشباب ويزينون لهم الجنة الموعودة، اولئك الشيوخ الذين يدعون البطولات الخارقة في الدروس الدينية «لم يتفاجأ يوم تمت دعوته للالتحاق بالجهاديين في سوريا،كانت حلقات الدروس تنقسم الى مجموعات تلتقي اثر صلاة العشاء لتخرج في سيارات بلوحات منجمية مضروبة ودراجات فيسبا للقيام بعمليات سطو باسلحة بيضاء وهراوات وقوارير غاز للحصول بالقوة والتهديد على كل ما يقع تحت طائلتهم، حصل ذلك امام عينيه وبامر من الامير»(ص168) فالكاتبة هنا تعطي لنفسها الفرصة لتنصت الى صرخات شاب تونسي كان طالبا مجتهدا محبا للرقص وفجأة اصبح «ذئب منفرد» ونفذ عملية الهجوم على نزل سياسي في سوسة، في روايتها اسمته «خالد المنسي» وجعلته يتحدث عن طفولته الفقيرة ليقول «انا خالد المنسي، الصبي الذي عاش حياة آيلة للسقوط، كنت اكثر من ميت واقلّ من حيّ الا انّي مقتنع بان الفقر لا يصنع الارهاب، بل الجهل والتهميش»(ص160) ومن شخصية خالد تنقد الكاتبة النظام التعليمي القائد على الكثير من الدروس دون توعية، وتنقد النظام الذي يسعى لتفقير ابنائه ثقافيا، فغياب الثقافة يؤدي ضرورة الجهل والجهل توأم الارهاب.
وتواصل الكاتبة الانصات لبوح شخصيتها لتكتشف مدى انتهازية من يدعون الدفاع عن الله فهم «سماسرة دين، والامر لا يعدو ان يكون إلا مجرد تلميع لصورتهم للفوز بالانتخابات».
«حياتي الاخرى» كتاب مفتوح عن الفوضى والفساد والتجويع والانتهاكات التي يمارسها ممثلي السلطة في تونس ما بعد الثورة، هي تعرية للواقع البشع كتبت باسلوب حكائي جميل، تتداخل فيه الاحداث والشخصيات وتنتقل الكاتبة من الحاضر الى الماضي لتعود الى الحاضر مجددا محملة بالكثير من النقد، تسكنها امكنة مختلفة ولعل ابرزها «الغرفة112» من احدى المستشفيات العمومية اين تقيم.
تحاول الكاتبة الانتصار للوطن، لكنه وطن ظلوم، وطن لا يعترف بنضالات ابنائه الحالمين بالتغيير وتختار شخصية «كارم» الطبيب رمزا للانسان المحب لوطنه والمدافع عن حق ابناء المناطق المهمشة في اطباء اختصاص، طبيب يترك احلامه فقط لمعالجة الفقراء فيقابله وطنه بالجحود «تبت يد الاوطان ان كانت بهذا الجحود، تبت يد الاوطان ان كانت تحول اجمل الاشياء فينا الى حزمة خيبات، البقاء والنجاح في هذا البلد ليس للافضل، البقاء فيه للاقذر والابشع» (ص115).