يختبئ قابيل منتظرا الفرصة لقتل أخيه هابيل والاستحمام بدمائه كما تفعل السلطة الديكتاتورية بأبنائها وبين ثنائيتي الخوف والقوة تتمحور أحداث مسرحية UNE FOIS من إخراج جلال حمودي ونور الدين مهذب.
والمسرحية بدعم من وزارة الشؤون الثقافية ومن إنتاج شركة وطن للإنتاج المسرحي ببني خداش و أداء بلقيس مصباح وعلي محمدي ومبروك محضاوي ونص لمنير محضي وموسيقى معز الونيسي وإضاءة بشير قليعي وملابس أسماء بن حمزة وتوظيب عام لأمل عدالي ونهى الدويري وإدارة إنتاج عبد الحكيم الصويد.
بين السجين والسجّان خيط رفيع عنوانه القوة
متى يخرج الوحش الساكن فينا؟ من يصنع الديكتاتور؟ كيف تموت الانسانية داخل الانسان ويستيقظ الوحش؟ ما دور العائلة والبيئة والتنشئة الاجتماعية في ايقاظ مارد القتل ودفن المشاعر والقيم؟ متى نقتل هابيل ونحيي قابيل؟ واسئلة اخرى تطرح في مسرحية «une fois» اخراج جلال حمودي.
المسرحية تسلط الضوء على ثنائيات الموت والحياة، البياض والسواد، الامل والألم، خاصة القاتل والمقتول، والعمل مقتبس عن تجربة حقيقية وهي «تجربة سجن ستانفورد « لفيليب زيمباردو لدراسة الحالة النفسية داخل السجن تقوم أستاذة جامعية في علم النفس التحليلي باجراء تجربة متمثلة في سجن إصطناعي داخل الجامعة ،تقوم باختيار «شخصين لأداء الأدوار المقترحة سجّان وسجين « عن طريق الاختبار من سيكون داخل التجربة التي انتهت قبل أن تنتهي مدتها نظرا لتواتر الأحداث وقتل أحدهما للآخر.
كما القصة الواقعية على الركح ثلاث شخصيات، الاولى لامرأة «بلقيس مصباح» الطبيبة النفسية، صاحبة الفضاء هي المتحكمة بمشاعر وافعال وافكار الشخصيات الأخرى، تتركها في مكان مغلق وتوفر لها الاكل والماء فقط، دون تبغ، هي صوت السلطة والقوة، الشخصيتان الاخرتان لرجلين الاول بلباس عسكري والثاني بزيه المدني، الاول يأخذ من لباسه القوة والبطش ويستخدم الحذاء العسكري لفرض سيطرته على الشخصية الاخرى، اما الثانية فشخصية فنان، محب للموسيقى حالم له احلامه الخاصة بمجاله الفني، كلاهما اختار ان يقوم بالتجربة بغاية المكافأة المالية بعد اتمام الايام الـ 15المتفق عليها.
اساس التجربة وضع شخصين في مكان مغلق لمراقبة تصرفاتهما، واعطاء احدهما مساحة من السلطة ليتحكم في الشخصية الاخرى، هما متساويان في الحقوق كلاهما كان يعيش شبه مواطنة وحين اختارا انجاز التجربة مقابل المال وقدمت السلطة لاحدهم كانت ردود فعله جدّ قاسية، ضرب للآخر ومحاولة لتكميمه وتقييده، العنف الجسدي والنفسي كانا وسيلة لفرض سيطرته على الاخر وكان بالتجربة تؤكد ان داخل كل انسان وحش نائم، وحش يمكن ان يكون قياسيا جدا متى استفاق من غيبوته الداخلية، ليقترب العمل اكثر من الشخصية الاولى صاحب الملابس العسكرية وبعملية استحضار لطفولته يكتشف الجمهور انه كثيرا ما تعرض للتعذيب صغيرا من والده، لتخزن ذاكرته كل مشاهد الضرب والتعنيف ومتى سنحت له الفرصة اخرجها على الاخرين.
فالعنف الساكن في ذاكرة الشخصية والمتروك في مكان ما يخرج الى العلن حين تقدم له السلطة، وكأننا جميعا مسكونون بروح قابيل قاتل شقيقه هابيل، جميعنا مسكونون بفكرة العنف كما تقول المسرحية.
اتحدت طاقة الممثلين مع السينوغرافيا
طاقة فنية رهيبة، قدرة على التقمص والانتقال من حالة نفسية الى اخرى بكل سلاسة، الشخصيات معقدة يتقنها الممثلان رغم صعوبتها، لكل ممثل عوالمه الدرامية والمسرحية، لكل مدرسته المختلفة لتكون النتيجة اتقان للنص والشخصيات وايصال لرسائلها اما عبر المنطوق او الحركي، مبروك المحضاوي استعان بصوته الشجي للغناء وسط العمل، شخصية الفنان الذي يصبح وحشا كاسرا، انتقال من مرحلة الهدوء الى العنف، من وجه بملامح بريئة الى اخر يكاد يكون مخيفا، الانتقال من حالة الى اخرى نجح في ادائه الممثل المختلف، مبروك المحضاوي الذي تعلم من مدينته الجبلية الشموخ والقسوة.
الموسيقى والإضاءة تخدم موضوع المسرحية وتكون نصيرا لفكرة التوحش والوحشية الموجودة في الطبيعة البشرية، الاضاءة الزرقاء الداكنة هي نبش في الذاكرة الانفعالية للشخصيات، تنقل ماضيها وتبحث عن اسباب الوحشية التي تمارسها، الاضاءة الصفراء الهادئة هي بحث وتحليل للمهدئات النفسية (العائلة، الأصدقاء العلاقات» التي تتبعها الشخصية لتنقص من طاقة الخوف وتعويضها بطاقة اخرى.
الموسيقى رديف الصراعات النفسية للشخصيات، الشخصية الاولى الصارمة والمتوحشة تكون الموسيقى عنوان لجبروتها من خلال ايقاعات تزعج اذن المتفرج، ايقاعات صاخبة كانها عنوان لصرخات داخلية، هي صرخات التعذيب الطفولي الذي عاشته الشخصية، بينما تصبح هادئة ورقيقة واكثر انسجاما مع شخصية الفنان لانه يعرف تصالحا مع ذاته وافكاره، الموسيقى تكون صوت الموت، تستعملها الشخصيات للتعبير وتكون وسيلة المخرج ليكتشف المتفرج خبايا الشخصيات وماتخفيه داخلها من افكار او قرارات والموسيقى هي لحظة الاعلان عن النهاية، نهاية الشخصية القوية بيدي شخصية الفنان الذي يستيقظ داخله وحشه الكاسر فيخرجه في شكل مارد يخنق رفيقه في التجربة.
«Une fois» مسرحية مكتوبة بحس نقدي، محاولة لتشريح ظاهرة العنف المنتشرة في المجتمع التونسي و التعنيف الذي تعتمده السلطة تجاه مواطنيها، بحث نفسي وسوسيولوجي في ظواهر الضرب والعنف وانتهاك خصوصية الانسان، هي وجه من سردية قابيل وهابيل وصراع الامتلاك والسلطة منذ بدايات الخليقة الى اليوم، بحث في فكرة الديكتاتورية والقوة وكيف يحيي الانسان الوحش داخله ليصبح قويا وديكتاتورا.
مسرحية «UNE FOIS» إخراج جلال حمودي ونور الدين مهذب: كل إنسان هو «قابيل» متى أمسك بزمام السلطة
- بقلم مفيدة خليل
- 10:08 04/06/2021
- 987 عدد المشاهدات
داخل كل انسان وحش يعيش سباتا ومتى سنحت الفرصة يوقظه ليصبح مسخا وديكتاتورا، داخل كل انسان