رحيل نوال السعداوي: نهاية امرأة شجاعة نحتت مسيرتها من نور ونار

سبق وأن قتلتها إشاعة الموت أكثر من مرّة، لكنها كانت تضحك ساخرة من حمق السخافات وزيف الأكاذيب... وحتّى لما داهمتها المنّية

وحاصرت جسدها العليل، بقيت نوال السعداوي قوية وصامدة وشجاعة. في مواجهة الموت على سرير المرض، كتبت الراحلة آخر كلماتها، فقالت وهي في عمر التسعين :»لقد انتصرت على كل من الحياة والموت... لأنني لم أعد أرغب في العيش، ولم أعد أخشى الموت».
هي سيّدة المعارك وبطلة الصراعات التي تخوض معاركها إلى النهاية حتى وإن كلفها ذلك التكفير والنفي والسجن. وبعد صراع مع المرض، رحلت نوال السعداوي يوم الأحد 21 مارس 2021 بعد أن عاشت حياتها حرّة ومتحررة من كل قيود المجتمع والعادات والأعراف...
ختان طفولتها نحت شخصيتها الثائرة
إن اضطهاد المرأة عند نوال السعداوي«لا يرجع إلى الشرق أو الغرب أو الإسلام أو الأديان، ولكنه يرجع أساسا إلى النظم الأبوية في المجتمع البشري كله.» منذ الطفولة كان وعي نوال السعداوي مبكرا بمرارة وخطورة قمع المرأة في المجتمعات الذكورية. وهي التي تعرضت في سن السادسة من عمرها إلى عملية ختان بشعة وثقتها بطريقة مؤثرة ومحزنة في كتابها «الوجه العاري للمرأة العربية» وهي تواجه ألم الآلة الحادة في تشويه لجسدها المقيّد على أرضية الحمام الباردة.
وطيلة حياتها ناضلت نوال السعداوي من أجل منع عادة ختان البنات التي لم يقم القانون المصري بتجريمها إلا في سنة 2008.
تذكر الراحلة أنها ورثت من والدها الموظف بوزارة المعارف التمرد على قيود المجتمع والضرب عرض الحائط بالثوابت والمسلمات... وأنه منحها حقها في التعلم كإنسان كامل الحقوق والواجبات.
درست نوال السعداوي في كلية الطب وتخرجت عام 1955 لتباشر مهمتها كطبيبة قبل أن تتخصص في الطب النفسي.
لم يسرق الطب نوال السعداوي من الأدب بل كثيرا ما كانت تنقل تجاربها الحيّة ومغامراتها الحقيقية كطبيبة في روايات وقصص وكتب.
انتصار للمرأة وكسر لتابو الثالوث المقدس
«الكتابة في حياتي مثل حضن الأم، مثل الحب يحدث بلا سبب، ومع ذلك لم أكفّ عن البحث عن السبب. لماذا أكتب؟» هكذا فسرت نوال السعداوي علاقتها بالأدب والكتب وهي التي كتبت أكثر من خمسين أثرا ما بين رواية وقصة وسيرة ذاتية... لم تكن السعداوي تمسك بمجرد قلم حين تكتب بل كانت تتسلح بسيف قاطع يحارب الثالوث المقدس (الدين والجنس والسياسة) ويحاكمه عن ذنبه في اضطهاد المرأة واستعبادها... فكانت نوال السعداوي تعتبر أنه باسم الدين فرض الحجاب على المرأة فحجب عقلها وليس شعرها... وأنه بسبب الجنس ظلم الرجل المرأة وأخضعها لنزواته وعقليته الذكورية... وأنه في غياب إرادة سياسية تنصف المرأة تتواصل المعاناة والمأساة...
في كل ما تكتب وما تقول ، كانت نوال السعداوي لسان دفاع شرس وجرئ عن المرأة المصرية والعربية عموما ضد العادات البالية والتقاليد الموروثة والفهم الخاطئ للدين ... فدفعت ثمن الجرأة عداء وتكفيرا وكلفتها الشجاعة في الموقف والرأي النفي والسجن ...
سجن ومنفى... وصمود
بمنتهى الغضب والجسارة، فضحت نوال السعداوي في كتابها «المرأة والجنس» الذي صدر في السبعينيات مخاطر ظاهرة ختان البنات و ما تخلفه من آثار نفسية وجسدية للمرأة ... فتم طردها من وظيفتها في إدارة الصحة. وبسبب آرائها ، تم غلق «مجلة الصحة» التي أسستها ... لكن نوال السعداوي لم تخش في مواقفها لومة لائم ولا تهديد سلطة.
في عهد الرئيس أنور السادات سنة 1981، تم الزج بنوال السعداوي في السجن. وهناك أبدعت أحد أشهر كتبها «مذكراتي في سجن النساء» والذي كتبته على مناشف ورقية بقلم كحل هربته إليها سجينة. تم إطلاق سراح السعداوي بعد اغتيال السادات لكن خضعت للرقابة وتم حظر كتبها...
في الولايات المتحدة الأمريكية، عاشت نوال السعداوي عذاب المنفى لكنها لم تتخلى عن الدفاع عن قضيتها وعن المرأة وعن الحرية... إلى آخر رمق في حياتها.
عادت السعداوي إلى وطنها مصر عام 1996، ولم تهدأ حولها العواصف والزوابع.
ترشحت السعداوي إلى الانتخابات الرئاسية عام 2004. كما كانت في صفوف الانتفاضة الشعبية ضد حكم الرئيس السابق حسني مبارك عام 2011.
في مصر تم منع نوال السعداوي طيلة 25 سنة من حضور معرض الكتاب، أما تونس فقد احتفت بالطبيبة والأديبة في معرض تونس الدولي للكتاب سنة 2015.
ومن المفارقات أن نوال السعداوي نالت التقدير والتكريم في شتى بلدان العالم، لكن لم تحظى في بلدها مصر بما تستحقه من مكانة. في رصيدها جوائز عالمية مرموقة على غرار جائزة الشمال والجنوب من مجلس أوروبا وجائزة اينانا الدولية من بلجيكا وجائزة شون ماكبرايد للسلام من المكتب الدولي للسلام في سويسرا ...
طيلة مسيرتها نالت السعداوي درجات شرفية عديدة من جامعات مختلفة حول العالم. وفي عام 2020 أدرجتها مجلة التايمز الأمريكية ضمن قائمة أكثر 100 امرأة تأثيرا، وخصصت غلافها الخارجي لصورتها.
كانت حياة نوال السعداوي معركة كر وفر مع شيوخ الأزهر ومع جماعة الإخوان المسلمين وكانت حياتها دائما مهددة بالقتل والاغتيال... لكنها عاشت وماتت عصيّة عن الترويض، متمردة على التقاليد، ثائرة في وجه الجهل والظلم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115