للأرض للهوية وللمواطن، لم يمنعهم جبروت الأنظمة ولا استبدادها من الخوض في مواضيع سياسية في اغانيهم.
وكلما «رزم الطبل» ورقص الرايس انطلقت الالسن بالغناء والنقد، وبعد قرون من المتعة الفنية وسنوات من عمل اللجنة التسييرية تمّ تسجيل «طوايف غبنتن» ضمن التراث اللامادي الوطني وقدّم ملف لتسجيلها ضمن القائمة التمثيلية للتراث اللامادي العالمي للانسانية لدى اليونسكو.
«غبنتن» نمط موسيقي فريد
ثلاث سنوات من العمل انطلقت فيها جمعية الرابطة القلمية بمدنين صحبة مجموعة من الفاعلين الثقافيين والمجتمع المدني ومؤسسات الدولة والمؤمنين بضرورة تسجيل «طوايف غبنتن» ضمن التراث اللامادي العالمي للانسانية، البداية انطلقت من دار الثقافة سيدي مخلوف (اغلب الطوايف انطلقت من سيدي مخلوف) ثم كانت الاتفاقية مع الوحدة الاثنوغرافية قبل الوصول لإعلان المعهد الوطني للتراث رسميا عزمه على تسجيل «الطوايف» ضمن التراث الوطني لبرنامج 2020 وهي المرحلة الاولى ثم انطلقت المرحلة الثانية وهي السعي نحو ادراج طوايف غبنتن ضمن التراث العالمي اليونسكو.
وحسب الناطق الرسمي باسم المشروع سعيد شامخ تعمل الهيئة التسييرية لمشروع تسجيل طوايف غبنتن ضمن التراث العالمي اللامادي للانسانية على تقديم ملفها لليونسكو نهاية شهر فيفري الحالي تحت عنوان طوايف غبنتن : فنون العرض وتحت شعار « طوايف غبنتن نحو العالمية » وذلك من اجل الاعتراف بقيمة هذا الفن وما قدمه طيلة قرن او اكثر من نمط موسيقي تراثي فريد ونموذج ثقافي مندمج في بيئته في مناسبات الاعراس والافراح بجهة الجنوب الشرقي.
تاريخيا غبنتن هي حصيلة المكون الاثني للمجتمع التونسي من خلال المجموعات التي وفدت على تونس في اطار المبادلات التجارية والحراك المجالي الذي كان يربط ضفتي المتوسط بافريقيا جنوب الصحراء وهناك من يقول انّ مجموعات افريقية عديدة حلت بتونس لانها كانت منطقة لبيع العبيدوبعد الغاء العبودية (1846) بدأت تتشكل الهوية الثقافية لهذه المجموعات ولعب الارث الافريقي دوره ورسم الملامح العامة لاندماجها وتسييرها.
وتتقاطع الكثير من المرويات الشفوية حول النشأة الاولى للطائفة مع الفترة التاريخية التي كانت فيها قبيلة غبنتن جزء من الكنفدرالية القبلية المعروفة باسم ورغمة مع الاجماع انه و مع بداية التمدّن وتراجع فكرة الترحال استقروا حذو زاوية سيدي مخلوف المهبولي في سيدي مخلوف شمال مدنين وأصبحت الزاوية فضاء اجتماعيا حاضنا لفنون العرض ومن هناك انطلقت الفرقة بعد ان قرعت الطبول « حسّه رزم، في الوسع يبم، حضّبوا عليه كبار الذّمم» كما قال منصور عويدات اول مؤسس للطوايف .
«غبنتن» طبلها ديوانها بعبارة الرايس (رئيس الفرقة) عويدات، وحوله تكون حركة المجموعة، ومنه يبدأ العرض ومنذ بدايات المجموعة تنقلوا بين القرى والأحياء فسمّوا في البدء «الطوالب» ولما وجدت في نفسها القدرة على انجاب الشعراء اسّست هيكلية طوايفها الانشادية على شاعر «رايس» ومعاونيه «بحرية» وضارب الطبل «برّاح» و اشتقت مصطلحاتها التنظيمية من فضائها البحري المرتحل اليه.
«غبنتن» نظام متقن وموروث متداول عمره القرن، لباس لا يتغير ونظام لا يمكن الاخلال به، هم يمزجون الهوية التونسية مع الارث الافريقي في اللباس الواحد والموحد، جميعهم يرتدون البرنس الأبيض مع الجبة و السروال والشاشية الحمراء فوق رؤوسهم ووشاح احمر صغير يربط فوق الكتف ويستعمل في اغلب الرقصات وعصا معقّفة باليد اليمنى وهي وسيلة الرقص، اللباس ميزته ايضا اللونين الاحمر والابيض لون العلم الوطني التونسي، ايضا حمرة الدم (فالعبيد كانوا يضربون بالسياط حدّ انفلاق الدماء) و الابيض بياض السلام والهدوء لتكون غبنتن وعبر التاريخ مقدمة لرسائل عن الحرية والبحث عن السلم والسلام.
غبنتن: صوت الحرية وانتصار للإنسان
موسيقاهم صدى لصرخات المعذبين، منذ البدايات وغبنتن تغني للحرية ينتصرون للانسان، القضية الفلسطينية كانت ولازالت وجهتهم في أشعارهم غبنتن التي استوطنت الجنوب الشرقي جزء اساسي في المنظومة الثقافية والفنية في تلك الربوع فقلما تقام تظاهرة ثقافية او عرس دون طايفة غبنتن فالاعراس هناك لا تستقيم والفرحة لا تكتمل دون حضور الرايس والبحرية وضربات البراح على الطبل معلنا عن بداية العرض الجامع بين الموسيقى و الكلمة الشعرية الناقدة والساخرة وبعض الاهازيج غير المفهومة التي تقابل بزغردة النسوة كعنوان على اكتمال لوحة الفرح.
طوايف غبنتن فرق فنية شعبية استوطنت بالمجال الترابي القبلي لجماعات قبيلة غبنتن المستقرة بعمادة القصبة من معتمدية سيدي مخلوف وقرية مقر بعمادة الشوامخ من معتمدية بني خداش ارتبطت تسميتها بالطوايف لاعتبارها فرق طوافة حول طبلها الذي عليه تكون الحركة الرئيسية للفرقة اثناء تاثيث سهرات الاعراس، وتتكون الفرقة من 7 الى 11 عضوا اولهم رئيس الطايفة الذي يقوم وحده بنظم الشعر وتنظيم الادوار بين بقية اعضاء الفرقة الذين يطلق عليهم اسم البحرية فهذه الطايفة تعتبر نفسها بمثابة سفينة قائدها الرايس وأعضاؤها البحرية ومهمتهم الاداء الجماعي وميزتها ان اعضاء الفرقة جميعهم فوق الخمسين سنة.
طوايف غبنتن عنوان للكلمة الساخرة والنظام الموسيقى والفني الموحد، وتنشط اليوم طايفة مبارك التومي وطايفة محمد تليش وطايفة العروسي دبوبة وطايفة مصطفى عويدات، وبالعودة الى اغاني الطوايف نجدها تقدم الاغنية الملتزمة واشهر اغانيها «قد الخبزة قد المُرقة الفاضل ما ثماش» في اشارة الى ضعف المقدرة الشرائية للتونسيين بالإضافة الى طرح مواضيع انية مثل الحرقة وغلاء المعيشة (مقهور ونشبح في غرايب، ليل راسي شاب، كانش ربي يعمل نايب، منادم ناقص في مصروفه يصفق في كفوفه العيلة ماهيشي مكلوفه» (ومعنى الاغنية غلاء الاسعار حد عجز المواطن عن توفير قوت عائلته)، وغنوا لفلسطين ونصرها كما غنوا ليبيا والحرب الدائرة بين ابناء الوطن الواحد وانتصروا لشهداء جبل الشعانبي وقدموا العديد من الاشعار في عروضهم للتغني بملحمة بن قردان وصمود التونسيين امام «تجار الموت» وغنوا عن حال تونس والازمة الاقتصادية التي تعيشها « بلاد خشت الواد، الحكام الكلها طامعة»، فالطوايف يلتزمون بهموم الانسان ويلتحمون بقضايا الاوطان .