من انسانية الانسان واعادة للحياة عبر الحركة والصورة والنقد كل هذه الافكار اجتمعت في مسرحية «sorry بيكيت» أولى انتاجات مركز الفنون الرّكحية والدرامية بأريانة.
المسرحية من اخراج رمزي عزيز وكتب نصها الاسعد بن حسين وتمثيل عمار اللطيفي وايمن السليطي وحمودة بن حسين ومنى بلحاج زكري واضاءة لشوقي مشاقي صوت وليد حصيرومساعد اخراج اميمة مجادي.
من عبثية الشارع الى عبثية المسرح
رحلة مسرحية متقنة الصنع، رحلة الى عوالم صامويل بيكيت كتب نصها الاسعد بن حسين وأخرجها رمزي عزيز ليكون اول انتاجات مركز الفنون الركحية والدرامية باريانة، «sorryبيكيت» هو اسم المسرحية التي تجمع اكثر من نص لبيكيت لتمزج الافكار التي كتبها بيكيت ويتونسها الاسعد بن حسين ليلائم النص المنطوق ما يعيشه التونسي اليوم من ارق وقلق وانتظار.
صوت رصاص قوي يكون عنوانا لانطلاق العمل، وفجأة يتراجع النسق الصوتي وتكون الحركة البطيئة والإيقاع الرتيب و الجمل المتكررة، كل تلك الرتابة والبطء تدفعان المتفرج لطرح الاسئلة وتشجيعه ليفكّر، في النص المنطوق وفيما تخفيه الجمل خلفها من معان وتلك مميزات نصوص صامويل بيكيت الدعوة الى اعمال الفكر.
رسائل مشفرة عديدة يحملها النص المقدم على الركح، شيفرات تجعل المشاهد امام مرآة كبرى يطرح الاسئلة عن المجتمع والسياسة والعلاقات الانسانية، في المسرحية عملوا على ثلاث نصوص لبيكيت وهي «في انتظار غودو» و «نهاية اللعبة» و»الشريط الاخير» دمج لنصوص صعبة المراس وغوص في تفاصيلها للنقد ووضع الاصبع على الداء.
في المسرحية طرح للاسئلة التي تسكن ممارسي المسرح والمهتمين بالفنون عموما، فكما طرح منذ سنين «من هو غودو؟ ومتى سيصل؟ وهل سيصل» في هذه العبثية والحيرة يطرح على الركح، متى يأتي اصلاح المشهد الثقافي التونسي؟ متى تصبح هناك قوانين تضمن عمل مراكز الفنون الدرامية وتسييرها؟ في ايّ زمن سيكون للمسرحيين الحق في الحصول على مستحقاتهم المادية دون انتظار بطئ المعاملات الادارية؟ ان وصل غودو فهل ستصل حقوق الفنانين؟ واسئلة متعددة تسكن الفنانين وتدعوهم على المشاكسة وبثّ لواعج الحيرة والخوف في اعمالهم الفنية.
«sorry بيكيت» مسرحية مشحونة بمعاني النقد، انطلاقا من نصوص عبثية تمت معالجة واقع عبثي، فـ«الشعب التونسي يعيش عالما عبثيا منذ عدة أعوام، عبثية في الطرح السياسي، عبثية في القرارات المرتجلة وعبثية في الواقع المجتمعي والعلاقات ومن كل هذه العبثية ولد العمل الذي تاخر لثلاثين عاما فمنذ دراستي بالمعهد العالي للفن المسرحي وانا اريد ان اقدم نص مسرحي لبيكيت، منذ تلك السنوات وانا ابحث ليكون النص اليوم وان تأخر لسنوات لكنه ولد مشحونا بكل ذاك الوجع والضياع والعبثية التي نعيشها» كما قال رمزي عزيز مخرج العمل لـ«المغرب».
ما قدم على الركح نقد للواقع التونسي، نقد لقرارات سياسية مرتجلة، وخطابات غير حكيمة وصراعات ونزاعات بين المسؤول والمواطن ، لغو في البلاتوهات التلفزية والمنابر السياسية وعدم استمرارية لقرارات حكومية كلما تغير وزير نسف قرارات سابقيه كل هذه الضوضاء نقلت على الركح انطلاقا من عوالم بيكيت العبثية وهل هناك عبثية اكثر من واقع التونسيين؟.
السينوغرافيا وأداء الممثل وسيلة للنقد
اجتمعت كل التفاصيل لحمل المتفرج في رحلة مسرحية مسكونة بالارق والخوف والدعوة الى التفكير وطرح الاسئلة، انطلاقا من صوت الرصاص الذي يدفع المستمع الى اليقظة وتحفز الحواس الى الاضاءة التي مثلت كيانا مسرحيا مستقلا بذاته، الاضاءة في «عفوا بيكيت» لوحدها تختزل الكثير من الابداع.
في المسرحية اتقن الفنان شوقي مشاقي صناعة الاضاءة للعمل المسرحي فكان الضوء نصير المتفرج للدخول الى عوالم الشخصيات وفهم انفعالاتها النفسية، الضوء يقسّم الركح الى اروقة للدلالة على الفواصل الزمنية، الاضاءة حين تنعكس على وجوه الممثلين تبرز فقط نصف ملامح الوجه لإضفاء مزيد الغموض وإبراز مدى العتمة التي تعيشها الشخصيات، الاضاءة بمثابة الشخصية الخامسة في المسرحية تشرّح انفعالات الشخصيات تدخل الى عوالمهم النفسية والاجتماعية وتبرز ملامحهم الخفية وتسبر اغوارهم لتشبه ذاك السلم الذي يرمى بيه الى قاع البئر لاكتشاف ما يخفيه.
في نصوص بيكيت تحضر بكثافة الاشارات الركحية مثل «صمت، حركة، ضوء» كل تلك الاشارات المكتوبة تم تحويلها الى فعل درامي عبروا عنه بالإضاءة والموسيقى فهما عالمين متماهيين صنعوا فرجة مميزة واستطاعوا من خلال الاضاءة والموسيقى ايصال عوالم بيكيت المسرحية الى المتفرج التونسي.
«عفوا بيكيت» مسرحية مشحونة بالنقد ومحاولة لطرح المشاكل السياسية والمجتمعية التي يعيشها التونسي والإنسان عموما على الركح، أتقن الممثلون الشخصيات وتحسسوا تفاصيلها العميقة وعرفوا جيدا ماهيتها ليقدموا العمل، عمار اللطيفي ابدع في تقمص الشخصية الرئيسية، يتشباهان كثيرا في الغموض ومحاولة معرفة العالم الخارجي، شخصية دون اسم في اطار العبثية مبنى ومعنى ، الشخصية المضطربة والخائفة وفي الوقت ذاتها تصنع عالمها الخاص وتحرك داخله الاخرين كما تريد، شخصية مركبة عرف اللطيفي كيف يفك شيفراتها ليقنع الجمهور.
من قوة المسرح وجرأته تنفس الممثل القوة والقدرة على تجسيد اصعب الشخصيات، في المسرحية كان للمثل ايمن السليطي اداء يشد الانتباه، ماكياج على العينين بلون اسود مع بعض البقع الزرقاء الداكنة رسمت على الذراعين والوجه كأنها نقل لوجع داخلي تعيشه الشخصية، ساق معطوبة و فكر مشوش وحركات روتينية ومحاولة ابدية للتحرر ثمّ الاستكانة الى السجن الاختياري، اتقان لدواخل الشخصية ومحاولة لفهم لخبطتها النفسية وعقدها وتقمصها بكل صدق ليكون الاداء مقنعا.
في المسرحية تحضر شخصيتين اخرتين، مساحة الظهور قليلة لكن «خفة الروح، والنكتة» اثرا ايجابا على نسق الاحداث فكان ظهور حمودة بن حسين ومنى بلحاج زكري بمثابة «التنفيسة» في المسرحية، للتقليل من وتيرة الخوف والأرق التي تسكن المتفرج لتدفع به الى دوامة السؤال هو الاخر.
رمزي عزيز مدير مركز الفنون الركحية الدرامية بأريانة:
رغم الصعوبات نسعى ليكون المركز قاطرة الحركة الثقافية في الجهة
«احببت عوالم بيكيت وعبثيته، حلم رأى النور وانتظرته لثلاثين عاما فمنذ كنت طالبا طالما حلمت بانجاز عمل ينطلق من نصوص بيكيت، وها انّ المسرحية ولدت بعد انتظار لذلك طلبت الاعتذار من بيكيت في اسم المسرحية، لأننا جمّعنا ثلاثة نصوص في عمل واحد لمزيد ترسيخ فكرة العبثية التي تناولها» هكذا تحدث رمزي عزيز مخرج المسرحية للمغرب.
ويضيف محدثنا انّ التونسي يعيش الكثير من العبثية خاصة سياسيا واجتماعيا ومن هذه العبثية المطلقة تكونت ملامح المسرحية.
ورمزي عزيز هو مدير مركز الفنون الركحية والدرامية حديث التأسيس وفي سياق العبثية ايضا مركز الفنون الركحية باريانة يوجد به موظف وحيد هو المدير»انا من يفتح الأبواب يشرف على خلاص الفواتير، يبحث عن المزودين، يقتني حاجيات المركز ويقوم باخراج المسرحية»، فالمركز يفتقر الى الموارد البشرية ومنذ عام ونصف ولازالوا يطالبون بمن يعزز المدير لكن لا مجيب وفي اطار العبثية ايضا ميزانية المركز «50الف دينار» هي منحة لا تكفي لإنتاج عمل مسرحي فكيف بالتجهيز و التسيير والخلاص والانتاج؟ ولو لا حبّ المسرح والإيمان به لسلمتهم المفاتيح منذ وقت لانّ اجتماع المعيقات والصعوبات قد يؤثر على حلمنا بانجاز فعل مسرحي كما نريد.
ويشير محدثنا انّ المركز ايضا يفتقر الى مقر لأنه جزء من دار الثقافة المنيهلة حاليا ويشير عزيّز انه تقدم بطلب الى رئيس بلدية اريانة لتمكينه من فضاء بير بلحسن وسط المدينة على وجه الكراء لكن كانت الاجابة «هناك اشغال» و يبدو ان الاشغال لن تنتهي وسيبقى الفضاء المنشود مغلقا دون ان يتمتع به المركز، ويؤكد عزيز انه من الضروري ان يكون
فضاء مركز الفنون الركحية وسط مدينة اريانة لان من اهدافه الاساسية احياء المدينة مسرحيا واخراج اريانة من تحت جناح ولاية تونس ولا يتحقق هذا الهدف الا بتوفر مقرّ وسط الولاية يجمع حوله كل معتمديات اريانة ويعيد اليها اشعاعها الثقافي.
ويؤكد رمز عزيز ان المركز الوليد له العديد من الاهداف اولها الانتاج والتوزيع وثانيها التوثيق ففهم يعملون على تجميع الذاكرة المسرحية لولاية اريانة لتوثيقها وتقديمها الى المهتمين بالمسرح، فلا وجود لنصوص او صور مجمّعة اليوم توثق للفعل المسرحي بولاية اريانة.
ومن الاهداف الكبرى للمركز جعله قاطرة للحركة الثقافية في ولاية اريانة وخلق استقلالية ثقافية للجهة حتى لا تبقى تحت ظلّ جناح تونس، فربما ياتي اليوم وعوض الذهاب الى العاصمة لمشاهدة مسرحية او فيلم تكون اريانة هي القبلة لابنائها لتحقيق متعتهم الثقافية.