قراءة في كتاب «أخبار التونسيين» للطفي عيسى: أزمنة التونسيين: «الأساطير المؤسسة – المجال- الذات – الانعتاق أو نحو الآخر»

بقلم: لمياء العبيدي
مثل مؤلف «أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول» مغامرة خاضها لطفي عيسى من بوابة المؤرخ المنفتح

على حقول معرفية ليست لها صلة عضوية بمهنته وتخصصه الأصلي لذلك مثلت إعادة زيارته لمتون أدبية مسألة جوهرية تنم عن رغبة في مراجعة المفاهيم الإجرائية والمدونات المصدرية التي يشتغل عليها المؤرخ، فهي محاولة لتجاوز المأزق المعرفي الذي تعيشه العلوم الإنسانية والاجتماعية بصفة عامة بما فيها «علم التاريخ». فقد حاول من خلال هذا المؤلف اقتحام مجال «ابستمولوجيا المعرفة التاريخية وفلسفتها».
ورد هذا الكتاب في 350 صفحة قسّمت لأربعة فصول مع مقدمة وخاتمة بالإضافة إلى الاستعانة بمنتقيات بيبليوغرافية، وقد ختم كل فصل بقسم طريف كان عبارة على منتقيات مصدرية جاءت على سبيل المرافقة والحاشية والاستطلاع والإهداء.
قدّمت لنا هذه الفصول أزمنة مختلفة للتونسيين تحيل على أصولهم وانتماءاتهم فكانت الانطلاقة بالبحث في «الأساطير المؤسسة» عبر العودة للخرافات الشعبية التي تحيل على «زمن الحكاية» وهو زمن موغل في التاريخ وفي القدم، لينتقل المؤلف وفي مرحلة ثانية لـ«زمن المجال» قصد توسيع أبعاد الانتماء والانتساب عبر ربط تاريخ التونسيين وأخبارهم بمجالات ثبت تأثير تاريخها في صناعة مختلفة انتماءاتهم.


عبّر الزمن الثالث عن انقلاب النظرة إلى الخبر تونسيا من خلال ربطه بفضول الشعوب الراغبة في الانعتاق والتقدم وتجسد ذلك من خلال ما وسم بـ «زمن الرزنامة»، وكان الزمن الرابع أكثر التصاقا بالذات وبالوجدان.
تتبع الفصل الأول أو «الزمن الأول» أخبار التونسيين والشخصية التونسية ومثّل فرصة للعودة للأساطير المؤسسة من خلال مساءلة رصيد تراثي بقي ولمدة طويلة محل تهيب من المؤرخين لما ينطوي عليه من خصوصيات وهو «الحكايات» و»الأمثال الشعبية». وفي هذا الإطار اعتمد «لطفي عيسى» على مؤلف «سالم ونيس» «الحكاية الخرافية والشعبية» والذي تضمن ما يزيد عن 130 خرافة تونسية.
تقترن أهمية هذه المدونة التي عمل «لطفي عيسى» على مساءلتها بثلاث نقاط: علاقتها بالزمن، علاقتها باللغة، والمضمون أو المباحث.
تحيل الحكايات والأمثال الشعبية على أزمنة بعيدة لذلك تم اعتبارها من النصوص المؤسسة لشخصية التونسيين فهي «نتاجا لحكمة الأجداد» و»بصمات ثقافية احتفظت بها ذاكرة جماعية حية»وثّقت للذاكرة المشتركة وكشفت مواطن الشخصية الجماعية فهي تحيل على الانتماء والانتساب.
تبقى إذن علاقة هذه النصوص بأزمنة غابرة بعيدة غير محددة في كثير من الأحيان من النقاط التي أهلت حضورها المستمر داخل ظرفيات مختلفة، فهي تحيل على الشخصية التونسية وعمق انغراسها في زمن بعيد سرمدي أحيانا وزمن تاريخي أحيانا أخرى من خلال إدراج بعض الأحداث التاريخية الواقعية.
إذا كانت الحكايات والأمثال الشعبية قد عادت بأخبار التونسيين إلى أزمنة بعيدة أو «أزمنة خرافية ذات أفق عجائبي»فإنها نجحت وفي نفس الوقت في الولوج إلى «روح التونسي» التي تجسدت في لهجته، فاللهجة المحلية عنصر يؤشر على ما وسمه لطفي عيسى بـ génome culturel du tunisien المحدد في تشكيل الشخصية الجماعية و«الواسم للشخصية التونسية».


ساهمت الخصوصيات البلاغية لهذه النصوص والتي تجسدت في انفتاح استعاراتها على دلالات مختلفة في توطينها من جديد وبأشكال وخلال ظرفيات مختلفة فهي معين لا ينضب.
وعمل لطفي عيسى على إبراز أهمية «الحكايات والأمثال الشعبية»وقدرتها على تجسيد مستويات من ماضي التونسيين فبالإضافة إلى نقل أخبار أعرضت عنها عادة المصادر الكلاسيكية من قبيل المدونات الأرشيفية أو الأدبية، فقد نجحت هذه المدونات في»استعادة المشاهد المتصلة بحياة سكان البوادي والأرياف في مختلف أنشطتهم وأشغالهم وتربيتهم فضلا عن أفراحهم وأترحهم وغيرها من الأعمال التي طبعت أنظمة ودوران مسار حياتهم اليومية»، وقد نجحت هذه الخرافات وحسب ما أورده لنا «لطفي عيسى» في نقل تمثل التونسيين العميق لخصوصيات الوسط الذي عاشوا داخله، دون أن ننسى عرضها للقيم والطباع التي حكمت حياة التونسيين من قبيل الطمع والجشع وسوء التدبير وفرط الغيرة وقلة المروءة، والمكر، والحيلة، والشجاعة...
لم تقتصر هذه المستويات على مجال دون أخر بل إن الحكايات شملت مختلف جهات البلاد التونسية أريافها سهولها وجبالها وأهلها سواء منهم من انتسب إلى سكان الحواضر أو أهل البوادي والقرى.
وما أكسب كل هذه المستويات طرافة عملية تسييجها النظري فقد عمل «لطفي عيسى» على محاورة المقاربات الأجنبية التي سيجت نظريا وبشكل مكثف هذا القسم وذلك من خلال الإلحاح على تقديم جملة من المقاربات النظرية والتي شكلت 10 صفحات من جملة الفصل.
جاء الفصل الثاني من الكتاب ليقدم «الزمن الثاني» أو ما وسمه «لطفي عيسى» بـ»زمن المجال» وقد مثل فرصة لتوسيع أبعاد الانتماء أو الانتساب عبر ربط تاريخ التونسيين وأخبارهم بتواريخ مجالات ثبت تأثيرها في صناعة مختلف انتماءاتهم.


وقد تم الاعتماد داخل هذا القسم على «كتلة الأخبار» التي استعرضها «البشير صفر» ضمن مصنفه «مفتاح التاريخ» والذي مثل مجموع الدروس التي ألقاها على مسامع طلبة الجمعية الخلدونية بين 1897 – 1908.
تحيل هذه الأخبار على تاريخ ممالك الشرق طوال العصور القديمة وتاريخ الإغريق وحضاراتهم بالإضافة إلى تاريخ الإمبراطورية الرومانية ومراحل توسع قرطاج وحروبها...تعّبر كتلة الأخبار هذه على وعي «البشير صفر» بضرورة توسيع مجال انتماء التونسيين.
عمل «لطفي عيسى في قسم أول من هذا الفصل على نقل التفاصيل التي ميزت المسار الفردي «للبشير صفر» والتي تؤشر على هذا الوعي.
وقد احتفت التفاصيل التي تهم الجانب التحصيلي للبشير صفر بالتأكيد على انفتاحه على العالم الخارجي وعلى الآخر فنحن أمام تلميذ من خريجي المدرسة الصادقية توجه إلى فرنسا حيث واصل تحصيله الجامعي وتابع محاضرات جامعة السوربون.
قدم «لطفي عيسى» الإطار العام الذي شكل هذا الوعي والذي تميز بتجذر الحركة الإصلاحية التي ميزت النصف الثاني من القرن 19 وذلك من خلال صدور جريدة «الحاضرة»التي تضمنت مقالات «للبشير صفر»عرّف فيها بالنظم السياسية والاجتماعية المحدثة وحاول الإحاطة بالأوضاع التاريخية والجغرافية لبلدان أوروبا، وفي نفس هذا الإطار تم إنشاء «الجمعية الخلدونية»التي أثثت العديد من الدروس في مادتي التاريخ والجغرافيا.
وتتأتى أهمية أثر «البشير صفر» ووفق التصور الذي قدّمه لنا «لطفي عيسى»، من محاولته إدراج تاريخ التونسيين ضمن منهج ساير العروض التاريخية المحدثة غربا وذلك بتوسيع الانتماءات الجماعية وبإدراج تاريخ البلاد التونسية القديم ضمن تاريخها العام مع وصل كتلة الأخبار بتاريخ ممالك العرب ودول الخلافة الإسلامية.
فقد سعى «البشير صفر» وحسب ما نقله لنا «لطفي عيسى» لتوطين مجالات الانتماء الحيوية للتونسيين ضمن كتلة تلك الأخبار المستجلبة، وتم ذلك وفي مرحلة أولى عبر ما وسمه»لطفي عيسى» بــ«مصالحة التونسيين» مع تاريخهم القديم (بعد أن كان يتحدث عن صعوبة استيعاب التونسيين لتاريخهم القديم) ومحاولة مد جسور متينة مع تاريخ الحضارات التي تعاقبت على البلاد قبل نجاح العرب المسلمين في أسلمتها.
اعتبر لطفي عيسى بأن الغاية من توجه «البشير صفر» هي إثارة اهتمام النخب التقليدية بالتاريخ القديم ودفعها بالتدرج إلى إنجاز مصالحة مع تلك التواريخ فمن المستحيل مواصلة الإقرار بالقدرة على فهم تاريخ البلاد التونسية بمعزل عما عاشته قبل الانتشار الإسلامي وهو ما اعتبره توجه محدث حتى وإن عثرنا ضمن ما خلفه النيفر من آثار ما يندرج ضمن نفس التصور تقريبا.
ويقوم هذا التوجه وضمن نفس التصور، على عدم الاقتصار على مقاربة تاريخ البلاد بالاستناد إلى رؤية تركن إلى النوازع الإسلامية المركزية والانفتاح بالتالي على الأدوار التي لعبتها مختلف الحضارات السابقة لانتشار الإسلام والمسلمين. وهو ما سعي إليه «البشير صفر» من خلال الإقرار بالأصول الشرقية لسكان البلاد و»النزوع نحو ربط تاريخهم القديم بتشغيل آليات صهر العناصر الوافدة على البلاد أو دمجها فينيقية كانت أو رومانية أو وندالية أو رومية بيزنطية أو بالتعويل على العكس من ذلك على تشغيل آليات المقاومة كلما ازداد الشعور بتفسخ مقومات شخصيتهم المحلية».
فقد اهتم «البشير صفر» وفق رؤية الكاتب بتاريخ قرطاج (أسطورة تأسيس قرطاج منجزها الحضاري – مدنية قرطاج – التوسع القرطاجي – الصراع القرطاجي الروماني) الحضور الروماني (سعي حكام روما إلى إحياء قرطاج من جديد – ضربهم لحركات الممانعة التي قادها زعماء الممالك البربرية – تقديم ترتيب أوضاع المستعمرة الإفريقية– تراجع سلطة الإمبراطورية...)


عمل إذن «البشير صفر» على ربط مختلف أطوار ووقائع مرحلة ما قبل الحضور الإسلامي بتاريخ البلاد التونسية وهو ما اعتبره»لطفي عيسى» نوع من الإنصاف تطلعت النخب التونسية إلى تحقيقه من خلال «تقديم نفسها على أنها أمة مناضلة من أجل استعادة سيادتها على وطنها المسلوب والإحاطة بمجمل تاريخه بما في ذلك ما اتصل منه بتاريخ ما قبل انتشار المسلمين».
ولم تشمل عملية توسيع الانتماءات المصالحة مع التاريخ القديم فقط، بل اتصلت كذلك بما عبر عنه «لطفي عيسى» بـالانفتاح على» الغيرية الأليفة» و»الغيريات الغريبة».
وقد جاءت «الغيرية الأليفة» لتحيل على انتساب التونسيين لـ»إمبراطورية إسلامية عالم» عبر مساءلة مادة تاريخية متنوعة وغزيرة (تاريخ العرب – ظهور الإسلام – تعاقب دوله – تأزم أوضاع الخلافة العثمانية- تواريخ العرب البائدة والعاربة والمستعربة ...) استجلب «البشير صفر» لتغطية 35 قرنا المشكلة للتاريخ القديم أخبار العديد من المجموعات العرقية وتواريخ المجالات الواقعة تحت تأثير الحضارة العربية الإسلامية منذ تأسيس دولة النبي بيثرب حتى إلغاء الخلافة العثمانية.
تمثل كل هذه العروض التي قدّمها «البشير صفر» امتدادا طبيعيا لتاريخ الإسلام وهي تحيل على الأواصر العميقة التي ربطت تاريخ الشرق بـ»ضمير التونسيين الجمعي» فقد تتبع الكيانات السياسية التي تقاطعت تواريخها مع تاريخ «إفريقية» بهدف تسهيل عملية إعادة تمثل التونسيين لإشكالية الانتساب بما يساعد على تخفيف شعورهم القوي بالدونية الناتجة عن «هامشيتهم المجالية» حسب التصور الذي قدمه «لطفي عيسى».


جاءت «الغيرية الغريبة» لتحيل على فضاءات جغرافية مغايرة تماما لمجالات «الغيرية الألفية»، فقد تشكلت من «تاريخ الأجوار الأوروبيين» (فرنسا – المجال الإيطالي – الأمة الإنجليزية).
وقد شكلت كل هذه المستويات ما وسمه «لطفي عيسى» بـ»جغرافية انتماءات التونسيين الجماعية» التي انفتحت على غيريات جغرافية وزمنية مختلفة، والتي دلت على القدرة الواسعة «لـلبشير صفر» على تركيب الأخبار والاعتراف بالتالي بالمشترك الحضاري الإنساني كان القصد منه تخطي التركيز المرضي على محور حضاري واحد وبناء مصالحة مع كل الغيريات وهو ما عبر عنه لطفي عيسى بـ«التعافي من جميع مظاهر الانطواء».
جاء الفصل الثالث من الكتاب ليقدم لنا ما وسمه لطفي عيسى بـ«زمن الرزنامة» أو «زمن الاستطلاع وحب المعرفة الجذلى» وذلك عبر التعويل على أشكال مستحدثة من المعارف والآداب من قبيل منجز «محمد بن الخوجة» المتمثل خاصة في «الرزنامة التونسية» وموسوعة «زين العابدين السنوسي» حول تاريخ الأدب التونسي والتي لم يصلنا منها سوى الجانب المخصص لتراجم أدباء النصف الأول من القرن العشرين ومختارات من أعمالهم الفنية.
مثل القسم الأول من هذا الفصل محاولة لتركيب المسار الفردي لكل من محمد بن الخوجة وزين العابدين السنوسي اللذان اعتبراهما لطفي عيسى «مساران متوازيان» لكن ما جمع بينهما هو انفتاحهما على معارف جديدة وهو ما يعني إمكانية تقصي «انسلاخ مضامينها المحدثة من أكناف المعارف القديمة».
حاول «لطفي عيسى» تجاوز التقييمات الصادرة بشأن سيرة «محمد بن الخوجة» ومنجزه المعرفي والتي تأرجحت بين الاعتراف بالمكانة والحظوة والاحتراز الضمني أو المعلن بدعوى انحيازه لصف الإدارة الفرنسية الحامية، فقد سعت العديد من المقاربات إلى تشويه صورة «محمد بن الخوجة» ولم تكترث بمنجزه المعرفي فتم فصله بالكامل على الحراك الفكري والسياسي حيث لم يتم إدراجه ضمن زمرة مؤرخي مرحلة النضال الوطني.
فقد أكد الكاتب وفي نفس الإطار على توفر المسار الفردي لمحمد بن الخوجة على نوع من التناقض بين الانخراط في الحياة السياسية وأداء الواجب المهني من جهة والمساهمة في صياغة خطاب تاريخي توفر على نزعة تأصيلية للاستعارات المرسخة لشعور انتماء التونسيين إلى وطن يخصهم. فقد ساهمت مختلف أبحاثه التاريخية في تبسيط المعرفة بالتاريخ الوطني.
عمل «لطفي عيسى» على التأكيد على نجاح نموذج «محمد بن الخوجة» في إحداث توجهات توافقية بين مساره المهني ومساره المعرفي الذي جسد من خلاله اعتقاده العميق في الانتماء إلى وطن يخصه.
حاول من خلال المسار الفردي لمحمد بن الخوجة تتبع نشوء الشعور الوطني والدور الذي لعبته «النخب المزدوجة اللسان والمدمجة من قبل الإدارة الاستعمارية في تقريب المبادئ الوطنية الجديدة في الأجيال الشابة التي انخرطت في النضال من أجل التحرّر من ربقة الاستعمار والدفاع عن ذاتيتها أو خصوصياتها الوطنية»
فقد ساهمت متانة تكوين «محمد بن الخوجة» المزدوجة في اتخاذه لموقع الوسيط البارع في التعريف بأخبار التونسيين وخصوصيات ذاكراتهم الجماعية وتراثهم الطريف ومختلف البصمات المتصلة بحضارتهم العريقة، وهو ما ساهم في ترسيخ الوعي بالانتماء إلى أمة منغرسة في التاريخ تطمح إلى إثبات ذاتيتها والخروج من واقع الوصاية الذي تردت فيه.
مثلت أعداد «الرزنامة التونسية»الصادرة بين 1900 –1916، المتن الذي اشتغل عليه «لطفي عيسى» بشكل مكثف داخل هذا الفصل الثالث. فقد شكلت «الرزنامة» أداة توعوية غير مسبوقة يمكن من خلالها «الكف عن رد القضايا المطروحة إلى أزمنة دائرية مقدسة والاعتراف نهائيا بسيطرة زمنية جديدة تحيل على «زمن الرزنامة» فقد تضمنت معارف فلكية وأدبية وتاريخية وعلمية وفنية وإدارية وسياسية واشهارية وجاءت لضبط التواريخ وكذلك للتعريف بالمؤسسات السياسية القديمة والمحدثة من قبل الإدارة الاستعمارية،فضلا عما تم تضمينه داخلها من عروض ذات طبيعة تثقيفية.
وساهم القسم الفلكي وفق التصور الذي صاغه «لطفي عيسى» في توضيح مواعيد السنوات الموافقة لحلول الأعوام الهجرية وتقريب الظواهر الفلكية الثابتة والمتحولة والتقويمات المختلفة المتصلة بجل الأمم والحضارات والديانات المعروفة من قبل القراء، وهو ما يؤشر على وعي «محمد بن الخوجة» «بفائدة ضبط الزمن وتحديده ضمن سياق قرن تسارعت ضمنه التقلبات وتعددت الابتكارات والاختراعات والاكتشافات وصار التقويم ضمنه من أوكد ضرورات الحياة العصرية،بحيث احتفت به جميع الشعوب»ويدل ما عرضته الرزنامة على أن النخب التونسية اقتنعت بضرورة عقلنة الإجراءات واعتماد أشكال جديدة في تقييم الأوضاع السائدة.


تتبع القسم الثاني من الفصل الثالث المنجز الأدبي التونسي والسردية التي قدمتها لنا مدونة «زين العابدين السنوسي» «الأدب التونسي في القرن 14» (الهجري/ 20م) ويندرج هذا التوجه وفقا لتصور «لطفي عيسى»دائما في إطار انفتاح المعرفة التاريخية على الجوانب المتصلة بتاريخ الأفكار واختبار مدى تأثير ذلك على الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والاهتمام بالتالي بتاريخ الثقافة التونسية حال انبعاث الروح الوطنية.
فقد عمل الباحث في مرحلة أولى على التعريف بـ»زين العابدين بالسنوسي» الذي اهتم بإنشاء الصحف بالإضافة إلى قدرته على تقريب أساليب النهضة الفكرية العصرية من التراث الإسلامي، فالأدب بالنسبة للسنوسي «لا يعول على بليغ الألفاظ» فقط بل ضرورة توضيح السياقات التي حفت بفعل الكتابة والجوانب التي استهوت المؤلف والتحولات الأدبية التي طالت المغرب وتونس، وهو ما تلقفه «لطفي عيسى» واعتبره مادة تدل على نضج فكرة البحث التاريخي.
استنجد «لطفي عيسى» ببحث لشكري مبخوت حول «قصة الأدب العربي» لإبراز طرافة ما قدمه «السنوسي». فقد أقر المؤلف بأنه استعان بهذه الدراسة بكثير من التصرف قصد الاستدلال على فكرة مفادها أن «سردية أدب النهضة لم تصدر عن تجدد الإنتاج الفكري والأدبي ضمن منطق التطور الفكري بل تقعدت على النتائج التي جنتها الثقافة الغربية والتعايش الحاصل بين القديم والجديد، تعايش بقايا عقليات ما قبل النهضة وإرهاصات الجديد»فقد تحول الغرب بحداثته العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والإبداعية إلى مرجعية مطلوبة للقيام بأدب عربي مناسب للوضعية الجديدة.
اعتبر لطفي عيسى بأن هذه النتائج التي تبنها «شكري المبخوت» يمكن مسايرتها ضمن الخطة المعتمدة من قبل «زين العابدين السنوسي» واعتبر مدونة السنوسي عرض تطبيقي لها.
أما بالنسبة للفصل الرابع من الكتاب فقد مثل فرصة لتتبع «الذاكرة المفقودة للتونسيين» وتقديم مراجعات حول شخصيتهم وهو ما عبر عنه «لطفي عيسى» بـ»زمان الذات أو زمان الوجدان» بالاعتماد على أدبيات تقدم لنا تصورا ذاتيا ووجدانيا عن الزمن.
اعتمد «لطفي عيسى» على مصنف «محمد عثمان الحشايشي» «العادات والتقاليد التونسية» والذي تضمن جملة من المعطيات التي أحالت على مضمون الثقافة المادية ومختلف المعارف والقيم والمعايير التي طبعت تصرفات التونسيين. بالإضافة إلى تتبع جملة من مقالات «الأب اندري ديمارسمان» والتي استعرضت أسس نظرية للشخصية التونسية.
ما ميز هذا الفصل الأخير هو الانطلاق بتقديم «مراجعات محسوبة على العلوم الإنسانية وعروض بيداغوجية حاولت التعريف بمقومات تلك الشخصية. في الوقت الذي تمثل فيه هذه المراجعات قراءة ما بعدية لما ورد داخل المدونة المصدرية النموذجية التي اتخذها لطفي عيسى كعينة للبحث وهو ما يحيل على ضرورة البحث عن رابط بين هذه وتلك ومدى الاستفادة منهما.
رصد لنا «لطفي عيسى» مدونة»الحشايشي»و»ديمارسمان» اللذان عملا من خلالها على تعقب نسق حياة التونسيين اليومية،محاولا التوغل عميقا في سمك شخصيتهم على صعيد التاريخ كالموروث المادي والثقافي.
وقد أنبنى التصور الذي صاغه المؤلف وفي مرحلة أولى على تتبع الثقل الذي شكلته العادة والتقليد ضمن ذهنيات التونسيين ودور ذلك في تحديد ثوابت الشخصية التونسية التي تحيل على المعيش المشترك بين التونسيين وضرورة استكشاف الخصوصيات الثقافية المتصلة بالمعتقدات والقيم والإيديولوجيات المهيمنة والفنون والملكات في بعديها اليدوي والتقني والنظري والفكري.


تتبع «لطفي عيسى»من خلال كتاب الحشايشي العناصر المحددة للانتساب تونسيا والتدقيق في مدلولها على جميع مستويات المعاش اليومي وما تفرضه من ترتيبات في مستوى التعامل والمواضعات السلوكية والأخلاقية والتعبدية والطقوسية وعاداتهم في التنشئة والتحصيل. بالإضافة إلى عرض أعمال التونسيين وأيامهم (أسباب المعاش والصنائع وعادات الأيام وطقوسها وأسعار المواد وأسواقها)وجرد مختلف صنائع التونسيين وحرفهم.
وأكد «لطفي عيسى» على انزلاق آراء الحشايشي نحو اجترار السائد والتزامه حدوده، مع تهيب صارخ من كل جديد أو خروج عن العرف أو تهاون بالتقاليد والعادات.
جاءت قراءة «لطفي عيسى» لمقالات «الأب أندري ديمارسمان» حول الشخصية التونسية لتحيل عمّا اعتبره «تأملات في ثوابت الشخصية التونسية وتحولاتها» وليتم إدراجها ضمن هذا الزمن الثالث «زمن الوجدان والذات». عبرت هذه التأملات عن الذات في حين عبرت قراءة «الحشايشي» عن الوجدان والإشكالية التي طرحت داخل هذا القسم الأخير هي هل يتوفر التونسي حقيقة على سلوك جماعي مميز يمكن أن يشكل الشخصية القاعدية؟
وبالرغم من الإقرار بوجود عناصر ثابتة مكونة لشخصية شعب إلا أن المشكلة تبقى في تحديد العناصر الثابتة في مقابل العناصر التي تتسم بتحولها السريع. فقد قدمت عوامل التوحيد في شكل طريف تجاوزت من خلالها المعطى المجالي أو الانتماء الوطني لترصد لنا عناصر متصلة بالنفسية الجماعية القادرة على صياغة نمط حياة موحد لمختلف السلوكيات ويمنح قاسم مشترك لمختلف الأفراد أ ومشترك جمعي بين التونسيين يتم تبنيه فكريا أو وجدانيا أو سلوكيا بشكل دقيق. ولفهم ذلك تم التعويل على ثلاث براديقمات مفاتيح: الاستقرار – المرونة – التشعب.
فالشخصية التونسية شخصية متفردة (وهو ما نعثر عليه في اللهجة) وتتسم كذلك بالمرونة التي تجسدت خاصة تونسة اللهجات واللغات المغايرة والتشعب فاختلاط الأعراق حضور جذور أثنية بربرية قديمة لم يمنع من تواصل عمليات التمازج العرقي والاختلاط.
وتتمحور الشخصية الأساسية وفق القراءة التي قدمها لطفي عيسى، حول وعي التونسيين بالقدرة على تشكيل مجموعة موحدة من حيث واقعها المعيش والأصول واللغة المستعملة في التخاطب والعقيدة والحضارة والتعبير تبعا لتمثلهم لأنفسهم باعتبارهم شعب وأمة.حيث انتقل مركز الثقل والتفاف التونسيين من التمحور حول وحدة المعتقد والحضارة الإسلامية إلى التمركز حول الانتماء لوطن واحد خاص بهم.


تشكلت إذن عناصر وحدة شخصية التونسيين النفسية حول ثلاث أبعاد ثابتة وهي الأساطير المؤسسة – الإسهام في الحضارات المتوسطية – التعبير عن التمسك بالتقاليد ولكن ذلك لا ينفي التباينات.
وبالمحصلة فقد مثل كتاب»أخبار التونسيين...» قراءة أرادها صاحبها مغايرة لمدونات مصدرية طريفة لم توضع بغرض التأريخ، ولئن وردت فصول هذا الكتاب متفرقة ومنفصلة عن بعضها البعض في مستوى المباحث التي طرحت إلا أنها كوّنت وحدة معرفية حال تدبّر طبيعة الخيط الرابط بينها والذي تقاسمته ثلاث رهانات حاول «لطفي عيسى» صياغتها بشكل مفصل:
تجسد الرهان الأول ذو الطبيعة المنهجية بالأساس في محاولة إثبات نجاعة المقاربة البيوبيليوغرافية لذلك مثل الاشتغال على المسارات الفردية والمعرفية من أكثر العروض التي انطوى عليها الكتاب.
لا يمكن لمتصفح هذا الكتاب أن لا يلاحظ احتفاء «لطفي عيسى» بمقاربات نظرية مست تقريبا كل الفصول سعيا منه لتسييج مختلف العروض التي قدمها، لذلك حضر الجانب النظري بشكل مكثف أحيانا على حساب المعطى التاريخي.
وقد تجسد الرهان المعرفي لجملة هذه العروض في الولوج لأخبار التونسيين عبر بوابات أو زوايا نظر مختلفة من خلال الاستناد على مدونات مصدرية طريفة،إلا أنه بقيت القدرة على استنباط معطيات تحيل على انتماء التونسيين من الرهانات التي كان من الصعب تحقيقها داخل كل أجزاء العمل وهو ما يمكن تتبعه بشكل جلي حال رصد الجزء الذي خصص لمدونة «زين العابدين السنوسي».
مثل إذن كتاب «أخبار التونسيين...» إعادة تركيب لحكاية التونسيين من وجهة نظر حاجياتنا لما بعد 2011 وكسردية تحاكي السردية الوطنية التي شكلتها الرواية الرسمية لما بعد الاستقلال، فهذا الكتاب عبارة على البحث في الأزمنة المفقودة داخل المروية الوطنية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115