السوق المركزية بتوزر.. مسرحية «سوق سوداء» لعلي اليحياوي: حان وقت الاعتراف بانهزامنا أم فكرة الاختلاف

أصبح السوق الحقيقي فضاء لسوق مسرحي افتراضي، تغير مكان العرض من ركح وقاعة الى فضاء مفتوح هو السوق الاسبوعية، السوق التي باتت

فضاء للأحداث فضاء للقاء مباشر بين المتفرج والممثلين، فضاء شهد أحداثا درامية وحركية مسرحية شدت انتباه المارة الذين قدموا لاكتشاف القصة و«كيفاش السوق عيولي مسرح» من خلال احتضانه لمسرحية «سوق سوداء».
و»سوق سوداء» من اخراج علي اليحياوي ونص اصلي لكولتيز واقتباس للأسعد بن حسين وتمثيل علي بن سعيد ومحمد شعبان وملابس اسماء حمزة وتوظيب عام لعبد الله شبلي وموسيقى الزين عبد الكافي وإضاءة مفتاح بوكريع، العمل من انتاج مركز الفنون الركحية والدرامية بتطاوين بالشراكة مع المسرح الوطني والمسرحية انتاج 2019 هي مسرحية تعالج العديد من المواضيع الاجتماعية.
صراع الانا والاخر؟
هل نقبل الاخر المختلف؟ هل نُقبل على الاخر الذي لا يشبهنا ولا يفكر مثلنا؟ هل يقبل التونسي الاخر المختلف عنه جسديا او فكريا او ثقافيا؟ كيف نعامل المختلف؟ وما دوائر الصراع الذي يعايشها الانسان وهو يصنع الحواجز الذي تفصله عن الاخر الذي لا يتناسق معه قبليا او مجتمعيا او دينيا؟ فالآخر متعدّد والانا كذلك أكثر تعدّدا وفي المسرحية يكتشف الانا كذبة قبول الاخر ويضع المخرج الجمهور في مواجهة نفسه فيكتشف قبحه وزيف مواقفه، هكذا يمكن تلخيص المسار الدرامي لمسرحية سوق سوداء.
كاتب النص الاصلي « في عزلة حقول القطن» كتب نصه منذ السبيعات، لكن تونس 2019 وتونسي الوقت الراهن يعايشان ما تحدث عنه كاتب النص من عزلة وخوف ورفض الاخر مع محاولة تعنيفه ونشر قانون اوحد يكون قانون القوي لا الضعيف، قانون صاحب المكان لا الضيف، قانون البائع لا الزبون، وفي هذه الدائرة تكون احداث المسرحية.
في «سوق سوداء» صراع بين القانون واللاّقانون، فالزبون تعوّد على المبادلات التجارية القانونية، اما شخصية البائع فمتمردة على القانون الجمعي ولها قانون البيع الخاص بها، وكأن بالمسرحية تنطق بما تعيشه المناطق الحدودية من عمليات التهريب المختلفة.
سوق سوداء نصّ مشاكس، يؤديه ممثلون محترفون، كلاهما تقمص الشخصية إلى حدّ التماهي مع انفعالاتها النفسية والفكرية، نصّ مشحون بعبارات النقد وكأنه صرخة ضدّ رافض الاختلاف، في صراع البائع والشاري تنفرط حبات المجتمع التونسي ليظهر زيف الانسان التونسي ومدى انتباهه للرابط العشائري او القبلي او الجسدي وعدم ايمانه برابط الدولة والمجتمع المختلف دينيا وفكريا وجنسيا.
سوق سوداء انطلقت من نص كولتيز لكنّ النص ينقل الواقع اليوم وكأنه كتب خصيصا لما تعيشه تونس الآن فعلى الركح يحدث الصراع بين القانوني والموازي وتلك معضلة الاقتصاد التونسي، في المسرحية يرى البائع في خوف الزبون وارتجافه (ضعف جنسي واختلاف) ويرفض ذلك ويدعوه «اكبس روحك»ّ وهو جزء من المشهد التونسي وصورة عن المجتمع الذي يرفض المختلفين جنسيا ويحاول عزلهم بالتهديد والعنف كما يحدث في المسرحية، في العمل ايضا نقد للرؤية الذكورية للمرأة التي تغيب جسدا لكنها تحضر فكرة فنرى البائع يحصرها في صورة «المعشوقة تحت اللحاف الابيض تنتظر هدية من عشيقها» متناسيا دورها وقدرتها على تغيير احداث عديدة يشهدها المجتمع.
في سوق سوداء نقد انطلق من نص قديم متجدّد، نقد للمجتمع وجلد للذات التي ترفض الاختلاف، مسرحية نهايتها مفتوحة لا نعرف هل أن البائع سيقتل الزبون أو العكس، والنهاية المفتوحة تشبه الدعوة للتصالح مع الذات قبل التصالح مع الاخر المختلف.
الموسيقى تكشف ملامح المكان وتفصيل الشخصية
جلبة السوق صباحا لازالت اثارها عالقة بأذن الجمهور، فاغلبهم كانوا في الصبيحة في السوق المركزية للتزود بما يريدون، فرغ السوق، هدأت الجلبة، وخفتت اصوات الباعة وهم يتغنون بسلعهم، لتحل محلها موسيقى أخرى موسيقى ذات صبغة خاصة هي ايضا لها ميزانها وإيقاعها الذي يشبه كثيرا ايقاع السوق في الصّباح، موسيقى مسرحية تمسّ اذن المتفرج لتغلغل الى قلبه وفكره وتحمله الى رحلة مسرحية مع «سوق سوداء».
الموسيقى التي ابدع في نحت ايقاعاتها وتفاصيلها زين عبد الكافي نقطة قوة في المسرحية، فالإيقاع القوي الذي يحاكي مشاعر الخوف الذي تعيشها الشخصيات هو نفسه الخوف الحقيقي الذي يشعر به المتفرج اول انطفاء الضوء وانطلاق القصة في وسط السوق المظلم.
بالموسيقى يدخل زين عبد الكافي الى العوالم النفسية للشخصيتين الرئيسيتين، ينقل الوجع والرهبة الذي تعيشه شخصية الزبون ذلك الذي «البيع والشراء عندي بالقانون، انا متعدي من نقطة الضوء في الشباك هذا، الى نقطة الضوء في الشباك هذاكا» ،وجعه وخوفه تنقله الايقاعات القوية وكأنها تعبيرة عن تسارع دقات القلب، فالموسيقى في علاقة بخوف الزبون والرهبة النفسية التي يعيشها من المكان الموحش تصبح الة من آلات العرض المسرحي هي ايضا وسيلة المخرج لينقل الاحاسيس الداخلية للشخصية، مطية الدرامورج ايضا ليتجاوز حواجز الجسد ويضع المتفرج مباشرة امام روح الممثل ورهاناته النفسية اثناء اللعب فـ «الموسيقى تعد وسيلة لفهم عمل أفكارنا إضافة إلى إحساساتنا العاطفية . كنوع من الترابط بين الرقم والفكر وهذا التأثير الاخلاقي يجعل المشاعر الانسانية اكثر نبلا» كما يقول «الان دانيلو».
الموسيقى جزء اساسي في العملية المسرحية، الموسيقى مثلها مثل الديكور والممثلين والنص لا يمكن الاستغناء عنها في البناء الدرامي لمسرحية سوق سوداء، فبالموسيقى يكتشف المتفرج ملامح المكان، لان ايقاعاتها تعبر عن مكان مهجور وصوت للرياح تعصف وصوت الخوف يدبّ في المكان، بالموسيقى يتعرف الجمهور على الملامح النفسية للشخصية، يدخل الى اغوارها يكتشف خوفها او زيفها وخبثها وكيفية تفكيرها أيضا فالموسيقى «تفكّك الفضاء وتكشف معاني النص وتفاصيل الشخصية» حسب تعبير مخرج العمل علي اليحياوي.
صفير الريح، تسارع دقات القلب، الخوف والرهبة، الضحكة الساخرة، عواء كلب يأتي من البعيد، همس الجمهور والحديث عن جملة ما، تسارع ايقاعات اجساد الممثلين اثناء الحركة (المسرحية تتطلب مجهود بدني كبير) جميعها جزئيات نحتتها موسيقى العرض التي صاغها الزين عبد الكافي لتكون الموسيقى في سوق سوداء جزء من الكل، جزء لا يمكن الاستغناء عنه في العملية الابداعية المسرحية فالموسيقى في العمل هي صوت الروح ومرآتها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115