من بينها جائزة إشعاع اللغة الفرنسية لعام 2019 لفائدة الشاعر التونسي الكبير الطاهر البكري الذي نشر، منذ إقامته في باريس في سبعينيات القرن الماضي، عددا من الدواوين الشعرية التي كرست تعلقه بالشؤون الإنسانية التي ناضل من أجلها منذ شبابه وخاصة بمسائل الحرية و العدالة والجمال والإخاء و تقاسم الإنسانية بين الشعوب والتي عبر عنها في اللغة الفرنسية التي درسها و بحث فيها وقام بتدريسها مع اللغة العربية في الجامعة الفرنسية و قدم فيها إبداعاته الشعرية و الفكرية.
من تقاليد الأكاديمية الفرنسية أن تقيم حفل توزيع للجوائز التي تقررها كل سنة لفائدة المبدعين. و تحترم فيه طقوس المؤسسة التي أسسها الكردينال ريشوليو في القرن السابع عشر للاحتفاء في المقام الأول باللغة الفرنسية ثم بالكتاب والمبدعين الذين يستعملونها. و التأمت هذه السنة تحت رئاسة الفيلسوف الأكاديمي ألان فينكلكروت. و قدمت فلورانس دولاي مديرة الأكاديمية الجوائز مذكرة أن المؤسسة اطلعت على 890 أثرا تم نشرها من قبل 39 ناشرا. و قررت منح 65 جائزة عدد منها تناصفا مع مؤسسات تدعم الأدب و الإبداع.
«نشد الحياة ضد ثقافة الموت»
وقامت المديرة بتقديم الأدباء والمفكرين و المبدعين المجازين وبتعليل القرار بمنحهم الجائزة. وذكرت مديرة الأكاديمية أن الطاهر البكري يقتسم انتماءه لمدينتين، مدينة قابس مسقط الرأس ومدينة باريس موقع السكن و الإبداع. و نوهت بتنوع انتماءاته و مواضيعه مؤكدة على لسان الأكاديمي داني لافاريار، واعجبت بتمسكه ببلده تونس في كتابه «أسميك تونس» الذي أصدره بعد الثورة ومركزة على أن الطاهر البكري «نشد الحياة ضد ثقافة الموت».
وكان من ضمن المبدعين المتوجين عدد من غير الفرنسيين جاؤوا من مصر و لبنان والكونغو والصين و الأرجنتين وإسرائيل وإيطاليا والتشيك و المغرب و غيرها من البلدان. كما كرمت الأكاديمية أدباء و باحثين من فرنسا مثل ريجيش دوبري الحائز على الجائزة الكبرى للأدب تناصفا مع ميشال لوبريس رئيس» مهرجان الرحالة المذهلين». و منحت الأكاديمية كذلك الميدالية الكبرى للفرنكفونية لكل من الباحث الأكاديمي المغربي عبد الجليل الحجمري لمساهمته في تدعيم تعليم اللغة الفرنسية في المغرب و كذلك للباحث الفرنسي جان بوفو الذي نشر كتاب «أجدادنا العرب، ماذا تدين لغتنا للغة العربية».
تفتح في زمن الشعبوية
و كرست محاضرة السكرتيرة الأزلية هيلن كارير دونكوس فكرة قيام القومية على أسس لغوية، خاصة بالنسبة للفرنسية و الألمانية. وذكرت كيف كانت اللغة، عبر العصور عنصر وحدة للشعب و أداة إشعاع في العالم حيث كانت في القرن الثامن عشر لغة الدبلوماسية في جل العواصم في العالم. ثم في فترة الاستعمار، انتشرت اللغة الفرنسية في جل قارات العالم و أصبحت لغة تبنتها شعوب كثيرة و هي الآن لغة معتمدة في الشعوب الفرنكفونية. وإن كان السرد التاريخي يمجد العظمة الفرنسية فلم يخف على السكرتيرة الأزلية أن الأوضاع تغيرت و أن عجلة التاريخ تدور حول لغات أخرى مثل الإنغليزية و الصينية و أن دعم اللغة الوطنية يبقى مسألة حضارية في المقام الأول.
أما الفيلسوف ألان فينكلكروت فقد انطلق في محاضرته من تحليل مقطع من كتاب «البحث عن الزمن الضائع» لمرسال بروست حتى يتطرق لمسألة الفضيلة. وفاجأ جميع الحاضرين بتوخيه بمدإ «التعايش» ومبدإ «كسر الثوابت» لتحليل الواقع المعاش على ضوء الإبداع الأدبي. وكان فينكلكروت في الآونة الأخيرة محل جدل عميق في المجتمع بعد مداخلاته التلفزيونية التي أظهر فيها انحيازا واضحا للمواقف الإسرائيلية و لليمين الشعبوي المعادي للإسلام. و كان خلال شهر نوفمبر الماضي قد أحدث أزمة في مؤسسة راديو فرانس بعد أن بارك في أسلوب ساخر على قناة «أل سي إي» «اغتصاب النساء» في أحد مداخلاته وهو يدافع عن السينمائي اليهودي رومان بولنسكي المتهم في عدد من قضايا الاغتصاب. و اغتنم فينكلكروت موقعه في الأكاديمية للقيام بعملية «تصحيح» لمساره مقدما نفسه كخطيب يساري يدافع على العيش المشترك و يندد بسلطة الإعلام التي أصبحت تكرس القيم الهدامة للمجتمع.
في هذه الأجواء الاحتفالية والتعددية تقوم الأكاديمية الفرنسية كل سنة بتكريم المبدعين من فرنسا و من كل القارات والذين اختاروا أن يعبروا عن أفكارهم و أن يبحثوا في مسائل شتى تهم الإنسانية وأن يبدعوا في مجالات مختلفة من الآداب. ديدنهم أن يتكلموا اللغة الفرنسية ولو أنها لبعض منهم ليست اللغة الأم.