منبــر: قراءة في «في المياه المالحة» لرفيقة البحوري: «سيرة ذاتية» بين إشراقات الحلم وانكسارات الخسران في الجنس الأدبي :

بقلم: حمادي الحلاوي
إن كتاب «في المياه المالحة» لرفيقة البحوري والصادر عن دار محمد علي الحامي أواخر 2019 ينتمي إلى جنس

في الكتابة محدود تقوم عليه الدلائل و القرائن من الحكاية والخطاب ومعايير النقد الأدبي ... هو سيرة ذاتية ... إذ ان الكتاب بدءا يحمل عنوانا فرعيا يرافق العنوان الأكبر و اسم المؤلفة على الغلاف وهو «سيرة ذاتية» وهو ما لايدع مجالا للشك حول تجنيس المؤلف. ويتأكد ذلك من داخل النصّ عبر ذاك التطابق الذي يقيمه منظرو السيرة الذاتية شرط تصنيف و عماده أن يكون السارد و الشخصية هما الصورتان اللّتان يحيل إليهما داخل النصّ بما يجعل «ذات التّلفظ وذات الملفوظ و ذات المؤلف الممثل في حاشية النصّ عن طريق اسمه «أمرا واحدا ... و لا يبقي مجال للتشكيك في كون» ضمير المتكلم يحيل غلى اسم المؤلف» القائم على الغلاف و إن كان هذا الاسم غير وارد في النص. إن الهويّة السرديّة للسيرة الذاتية .. يحددها التطابق بين المؤلف والسارد و الشخصية ... بذلك يكون المرجع الذي يحيل إليه الملفوظ هو حياة الشخصية الساردة المؤلفة و يكون النصّ مطابقا لخارج النصّ...

إن كتاب «في المياه المالحة» سيرة ذاتية للمؤلفة رفيقة البحوري مؤطّرة بزمن أحداث واقع بين الميلاد و النشأة الأولى ويتواصل إلى زمن الكتابة و قد نيّفت الكاتبة على الستّين «وها أنا ذا قد تجاوزت الستّين من عمري»...

والسيرة الذاتية كما يحدّها «لوجون» «حكي استعاري نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاصّ وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة فردية». هذه الحكاية وسمتها المؤلفة « في المياه المالحة» بــ «طريق الخسارة» . وهي سيرة تروي حياة وتعرض أفكارا وترسم إحساسات بشكل ضمنيّ أو صريح.

سيرة العلاقة فيها وثيقة بين عالم الذات و التاريخ لأنها تعرض لحياتها متّصلة بالأحداث العامّة منعكسة منها، الأحداث الحافّة والمؤطّرة لهذه السيرة تتراوح بين التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي وفي خضمها كانت سيرة الراوية عبر محطات و تجارب شتّى أثثت النصّ السيرذاتيّ . فكيف تبلورت هويّة الشخصية في التاريخ وما صورة التفاعل بين الذات والعالم في كتاب «المياه المالحة»?

• بنية النصّ:
تروي رفيقة البحوري سيرة حياة يؤطّر أحداثها ميلاد حدّدته قرائن في النصّ إذ تقول في الإشارة إليها وليدة بين أحضان الأم التي «ما إن غطست في الماء حتى شعرت> بالوجعة الأولى (و). كانت بعد سويعات « كالعروس في جلوتها ووالدتها بجانبها «... اما حادثة الختام فهي حفل تسلم جائزة نوبل للسلام في 8 . 10. 2016 للرباعي الراعي للحوار التونسيّ ... كان الحفل بهيجا و كانت مشاعر الفرح الطفوليّ تغمر الشخصيّة وهي تتفاعل مع أغنية الثورة تؤديها آمال المثلوثي « آنا أحرار ما يخافوش « أماّ في مستوى الدلالة الرمزيّة فإن الحكاية دائريّة انفتحت بسؤال حول اختيار المسار حيث تسائل الراوية نفسها « لماذا اخترت طريق الخسارة» وانغلقت على نفس المسألة «وماذا لو لم تكن هذه الطريق هي طريق الخسارة»:
وبين تلكم الفاتحة و ذاك الاختتام كان الخطاب السردي عرضا لقصّة الحياة معتمدا نقل الأعمال و الأقوال والأحوال بأسلوب نأى عن الخطيّة الزمنيّة فكانت المراوحة بين الاستباق والاسترجاع ... وقد تتداخل الأحداث بالتداعي فتتداخل الأزمنة و تتنوع بين الماضي و الحاضر و إلى ذلك تتوقف زمنية السرد لتنصرف الراوية إلى تأملات و حوار باطنيّ و عرض مواقف أو خطاب شعريّ... ويبقى الواصل بين كل المقاطع ضمير المتكلم وصوت الشخصية الراوية. وإن مضمون الحكاية المنقول بشتىّ الأساليب هو جملة تجارب في أزمنة متّصلة ومنفصلة في السّيرة الممتدة على ما نيّف على ستة عقود ... من النشأة الأولى إلى مرحلة التمدرس إلى الشّبيبة وما تخلّلها من حياة جامعيّة حافلة بالحركة الفكريّة النضاليّة و المغامرات العاطفيّة ... وصولا إلى الحياة المهنيّة أستاذة في المعاهد الثانويّة فزوجة وما تخلّل ذلك من انصراف إلى العمل النقابيّ والسياسيّ و الحقوقي الديمقراطي في إطار جمعيّة النساء الديمقراطيّات بالإضافة إلى حراك ثقافي و اجتماعيّ للأستاذة الجامعيّة منذ التّسعينات وإلى حدود ثورة الكرامة و ما اتصل بها من حركات احتجاجية و اجتماعيّة وتجربة سياسيّة خاضتها الشخصيّة بين 2011 و 2014 في إطار القطب الديمقراطيّ وترشحت خلالها للانتخابات التشريعية ...

ونجد ضمن هذه الأحداث الكبرى التي تشكل متن الحكاية وقفات ومقاطع تسرد جوانب من الحياة الشخصية الحميميّة حول الحبّ والزواج والطلاق وملابساته والوحدة وتداعياتها الوجدانيّة والتأمليّة...

ويتوقف زمن الأحداث في سنة 2016 إبّان تسلّم رباعيّ الحوار الوطني جائزة نوبل للسّلام.

من نوافل القول أنّ لعالم الذات وتفاصيل الحكاية وثيق الصّلة بالتاريخ الاجتماعـي والسياسي و الثقافي إذ أنّ السّيرة منزّلة في سياقه متفاعلة معه تحقّقه غاية تاريخية أيضا على ما يذكر منظّرو السّيرة الذاتيّة فــ « كلّما كانت السّيرة تعرض للفرد في نطاق المجتمـــع».

وتعرض أعماله متّصلة بالأحداث العامّة أو منعكسة منها أو متأثرة بها فإن السيرة في هذا الوضع تحقّق غاية تاريخيّة.

وقد ضمّنت الكاتبة هذه الغاية إيحاء في إحدى عتبات التقديم من خلال قول نزار قباني:
«أنا لا أكتب حزن امرأة واحدة
انني أكتب تاريخ النساء»
و يمكن أن نشير في سياق توصيف المتين السّردي لسيرة «في المياه المالحة» إلى ما ارتأته الكاتبة من توزيع المادة المرويّة إلى فصول وسمتها بعناوين وهي ثلاثون فصلا تفاوتت حجما حيث استغرق أطولها « بين النعيم والجحيم» 22 صفحة وكان أقصرها « حركة آفاق» وقد امتد على صفحات ثلاث و هذه الفصول تشير إلى حقب و تجارب وتيمات لا تستهدف التبويب المجاني بقدر ما أرادت توجيه القارئ ليدرك الوشائج التي تصل مقاطع السّيرة في إطار وحدة موضوعيّة.

بعض هذه العناوين تشير إلى تجارب في مراحل تاريخيّة محدّدة مثل « لجان الأحياء « ص 52 . الإتحاد الوطني للمرأة ص 145 في إطار الصراع من أجل دمقرطة الإتحاد المذكور سنة 2011‚ «متعة الاتصال بالمواطنين» ص 186 تنويها بالتجربة الانتخابية التي خاضتها الشخصيّة مرشّحة لتشريعيات 2014... و بعض هذه الفصول يتعلق بمسائل وطنيّة و إنسانية مثل «حرب القذارة» ص 87 «من أجلك يا تونس» ص 142، «القطب» ص 176... «حركة آفاق» ص 216... فيما خصّصت فصول أخرى للذاّت الساردة إيغالا في حميميّ المواجد والمواقف والأحداث وذاتيّ الرؤى والمواقف مثل «أكسيد الذاكرة» ص10، «نزيف اللحم الحيّ» ص46، «أحلام و أوهام» ص164 ...

• الحريّة حلما، شوقا و توقا:
تتعدّد التجارب بين الطفولة و الشبيبة و الكهولة و تتّصل... وتتنوع المواقف و الأحوال و تتصادّى ...
ذلك أن تدبّر النصّ يفضي إلى إدراك خيط ناظم للمسيرة السّيرة وهو الحرية بدءا و منتهى ... الحريّة حلما و مشتهى ... مبدأ منشودا مفقودا ... غاية تطلب و لاتدرك إلاّ لماما ...
تلوح الحريّة جبلّة و طبعا في الشخصيّة قبل أن تكون مبدأ يحكم السّلوك و يحدّد المنشود تقول الرّواية «تمثّلي للحريّة هو تمثل صاغته عضلاتي و شراييني قبل أعي مفهومها و قبل أن ألتزم بها مبدأ» والحريّة هي الحلم الذي تهفو إليه نفس الطّفلة في واقع منغلق رهيب «كان انغلاقها يولّد فيّ الرهبة» وهذا الحلم للانفلات من أسر الحرمان العاطفي والانغلاق الفكري وزجريّة التربية والعادات تعيشه الشخصية في كون بديل تلجأ إليه ... كون استعاري «حين يضيق الفضاء الواقعيّ قد يلجأ الإنسان إلى فضاء يصوغه على مقاسه ينحته كما شاء له الخيال حتى يتمكن من إعادة التوازن المفقود».
و إنّ النظير الحسيّ لهذا الوهم / الخيال هو البحر الذي سيكون فضاء الحرية و التحرّر كلّما ضاقت الّسبل دون انطلاق المواجد والمواهب والرّغائب.
«لعلّ البحر هو وهمي الذي نحته و نحتني شكّلته وشكّلني لعلّه كذبتي الممتعة التّي عوّضتني عن الرّحم الذي لفظني وعن الحضن الذي لم أستطع أن أسكن إليه».
هذا البحر الذي وجدت فيه الرّاوية «المعوّض عن هذا الفقر العاطفيّ»، «منحني البحر مصبّا لعواطفي الحبيسة... مكن مشاعري من أن تتدفق بتلقائية».
و إذا كان البحر صنع الحريّة في مسيرة الرّاوية ... و إذا ما اعتبرته مملكتها «البحر مملكتي» فإننا ندرك أنّ مسيرة الشخصيّة ستكون في حدود هذه المملكة مملكة الحريّة غاية تطلب وكينونة تصان و تحصّن ضد أشباح الامتهان و الاستلاب... وما الحريّة إلاّ «الدفء والراحة والسلام» الحقيقة الأزلية قرينة الوجود والموجود التي تغمر الكائن بدفء الجنة الضائعة تقول «كلّ ما سأعيشه بعد ذلك هو بحث عن تلك اللّحظة من الالتحام بأمّي وسط تلك المياه الدافئة».
وبذلك تلوح لنا الحريّة كناية عن التوازن وبهجة الوجود طِلبة الشخصية عبر مسارات الحكاية وما المسيرة كلّها إلاّ بحثا عن هذه القيمة الأصلية في عالم «المياه المالحة» «سأظل أبحث عن إحساس الاندماج و الدّفء و لكن دوما في المياه المالحة...».
عبر هذا التناظر بين الحقيقة و الرمز و هذا التفاعل بين الواقع والحلم كانت مسيرة الشخصية في مختلف التجارب والمحطات مطبوعة بصفات البحر و خصائص المياه المالحة... دفءا وبرودا ... هدوءا و تقلّبا إخصابا و عقما ... تقول الراوية استباقا بمنطق الراوي العليم «أعرف أنه سيطبع مسيرة حياتي و أنني سأعيش التقلّب و تتلاعب بي الرّياح العاصفة».
في الطفولة و النشأة الأولى كان الشوق إلى الحريّة للنأي بالذات عن استلاب التربية الزجريّة التي تضيّق سبل البهجة والانطلاق ... هو العالم الأسري الموسوم بالرهبــة والخوف.
وغياب التواصل الوجداني «أمّا و أنا طفلة فقد عانيت من صعوبة التواصل معها ومن الحرمان العاطفيّ» وقد اقترنت هذه الفترة بالضيق و«ضياع الحدود الخاصّة... وسجن الجسد... ويتزامن ذلك مع تمثّل فطريّ للحرية من إلهام «المياه المالحة».
«شعوري في البحر و أنا أتخلص من قانون الجاذبية، من ثقل الجسم المحكوم بشروط الاستقامة العمودية إلى الانسيابية الأفقية» هي الرغبة في التحرر وقد بدت إحساســـا وظلت وجودا بالقوّة تصوغه «العضلات و الشرايين» قبل أن يتشكل وعيا وإرادة تجاوز قبل «الانتقال من شروط محددة ما قبليّا إلى تشكل جديد أكتشفه بفرح القدرة على الفعل وبإحساس الإرادة».
في طور الشباب ستجد هذه الذات وهي في «توقها الدائم نحو الحريّة» المجال رحبا للتّحدي و الحلم «بمستقبل تسوده الحريّة المطلقة في العائلة و الجامعة و الوطن»... لقد انصرفت الشخصيّة وهي طالبة في كلية الآداب إلى طلب الحريّة الفكريّة و السياسيّة عبر الاحتجاج و الحراك النضالي و إلى ممارستها في حياتها الشخصية عاطفة و سلوكا حيث كان توهّج الفكر كما توهج الوجدان من علامات تأجّج الأشواق والإرادة سعيا إلى العالم البديل تقول «كانت رغبة التحرر تدفعني إلى الخروج عن الأشكال الحريميّة» وتجلى ذلك في الهيئة «وفي كلّ مرّة أبتدع بدعة كما حصل لي في مسألة لباس السّروال وقصّ الشعر» أو في تجربة الحبّ «كنت وقتها أعيش أعنف قصّة حبّ و أكثرها رومانسيّة» وتضيف في سياق البوح الحميميّ «دامت علاقتنا طيلة أيام الدراسة الجامعيّة كانت قصّة حبّ رومنطيقي عنيف ... يمكن للمسة من يده أن تزرع الربيع في قلبي».
أمّا على المستوى الفكري و السياسي فقد كانت الراوية مدفوعة بشعلة ثورة الشّبيبة المتوهّجة ... في فترة مفصليّة من تاريخ الحركة الطلابيّة إبّان الصّراع مع السّلطة لعقد المؤتمر الاستثنائي للإتحاد العام لطلبة تونس ... «و كانت عبر الإضراب والتظاهر والمسيرة تجد ترجمان الرغبة و الإرادة» كانت قناعاتي الإيديولوجية واضحة والنضال من أجل تغيير الأوضاع يستقطب كلّ طاقاتي».
إن فترة الحماس في هذا المناخ تشهد التوق إلى تحرّر الوطن الأصغر بل و الوطن الأكبر «كنت في أوج حماسي أصرخ مطالبة بطرد رمز الإمبريالية و عميل الصهيونيّة من تونــس ومن العالم العربي و من العالم بأسره إن اقتضى الأمر»... و لم تكن باليد حيلة لتجسيد الإرادة سوى الصّداع و الصراخ و هي «مقتنعة انه بقدر صراخي يكون إصلاح العالم».
تتواصل المسيرة و مبدأ النضال من أجل الحريّة ثابت في الأعمال و الأقوال سواء في العمل النقابي الذي انخرطت الراوية في هياكله في حياتها المهنيّة أستاذة بالتعليم الثانوي ثمّ بالتعليم العالي. أو في العمل الجمعياتيّ حيث كانت منخرطة في جمعية النساء الديمقراطيات و أيضا في العمل السياسي عندما انخرطت في حزب القطب الديمقراطيّ ...
إنّ هذه الفترة من مسيرة ما بعد الشّباب و الانخراط في الحياة المهنية تستبد بالقسط الأوفر من نصّ السيرة الذاتية و تتحدد أزمنة الأحداث بحقبة الثمانينات و ما تلاها لتتوقف بالخصوص عند بدايات الثورة... وخلال أحداث جانفي وماتلا 14 جانفي و سنوات حكم الترويكا فانتخابات 2014 و ما شهدته من ملابسات الخيبة والإحباط لتتوقف عند حصول تونس على جائزة نوبل للسلام سنة 2016.
في غضون هذه الأحداث العامّة كانت مشاركة الشخصية بالرأي و الموقف المسند لكل سعي تحرّري في الجامعة والمجتمع وسط الجماهير الغاضبة من اجل الحريّة و الكرامة «في نشوة الحركة أندفع مع العاصفة وهي تزمجر في المنازل تهدر في الشوارع تؤجّج المشاعر الراكدة و تعد بأقواس قزح» لقد صار نشاطها يوميّـــا رصدا للأحـــداث ومشاركة فيها عبر بوّابة نقابيّة «صرت أذهب يوميّا إلى دار اتحاد الشغل بسوسة أجدها تعج بالنقابيين... يعبرون عن رغبتهم في التحرّك و يأتي الطلبة و تعج بهم الساحة».
رفيقة البحوري والنضال من أجل الحقوق و الحريات قصّة مبدأ و التزام و عمل بلا حسابات الطمع و الخوف ... قصّة انتصار للحركة النسويّة «... كان من مبادئ النسويّة لا مساومة فيها» ... و قصّة تضحية لتحقيق الوجود الأشرف «عندما تزمجر الجماهير‚ عندما تندفع برياح الغضب ... عندما ترتجّ مشاعر الغيظ والنقمة والقهر المتراكم من سنين... قالبة كل الموازين إذّاك أشعر أني أغوص في ذلك الخضمّ العميق يوجّح فيّ كل طاقة للتحدّي «إن الالتصاق بالجماهير تحقيق للذّات و أحلامها» عندما أصرخ ملء صوتي : الشعب يريد ... أشعر أنّني خفقة من خفقات العاصفة أنني أنجرف مع التّيار يحملني إلى دنيا التحقّق «وفي هذا المناخ من النشوة الثوريّة لا تبالي الشخصية بالعواقب اندفاعا وتضحية» في تلك اللحظة لا يهمني أن تخترق رصاصة صدري ... رأسي ... أكون منقطعة عن غريزة حبّ البقاء.
كذا كانت في سعيها من أجل تحقيق أحلامها «بتغيير المجتمع والانتصار على العادات البالية» هاجسها أن ترى «الخضراء يوما زاهية مكلّلة بتاجي العزّة و الازدهار».
كانت قناعاتها في الحراك السياسي والاجتماعي قدرتها كما تقول على «أن أفيد بلادي، أن أساهم في تقدّمها وأن أحقق حلم الحرية والعدالة والتقدّم».
نحلم بورده ماليها مثيل
تضوّي كالقمرة و نجوم اللّيل
وراقها في النسمة ترفرف و تميل
و عليها بهجة اتنسّي لحزان
... ها الوردة ديما مابين عينيّ
نفديها بروحي ونقول شويّة
بهذه الأهزوجة المنظومة في شعر شعبيّ يُختزل الحلم وتتجلّى مقاصد النضال الوطني في شفافيّة الطهوريّة و الصّدق فما كانت مـآلات ما تاقت إليه النفس وانخرطت في صياغته من بوّابات النضال النقابي والسياسي والمجتمعيّ؟

• عذابات الانكسار ...
تتّصل السّيرة «في المياه المالحة» وعبر مسارات التوق إلى الحريّة في أبرز محطّاتها: النضال الاجتماعي والسياسي والمجتمعي بلحظات من الإشراق و البهجة إشراقات مؤقتة سرعان ما تنجلي و تنكسر على صخرة واقع أصمّ ... أخرس «دخول الوهم يلقي بالإنسان حتما على الصخور».
لقد آل أمر الحلم بزواج يُجلي أشباح الحرمان العاطفيّ «يعيدني إلى جسدي هذا الجسد الذي فصلتني عنه أحكام المجتمع حلاله وحرامه» إلى حالات توازن ... و نشوة «مع زوجي تفتّحت أنوثتي وانفتح أمامي عالم المتعة .. لا حدود.. لا قيود ولكنّه ينتهي إلى خيبة وفشل انتفى معه الوئام و«الحبّ الغامر»، «لقد انحدرت العلاقة إلى فظاعة ولم يعد التعايش ممكنا» لم أعد قادرة على تحمّل الإهانــة أنا التي لم تضـرب في طفولتهـا وصباها أنا النسويّة المدافعة عن كرامة المرأة» وكان الطلاق نهاية حتمتها مبادئ ثابتة وعقيدة صمّاء في تحصين الحريّة و الكرامة.
وفي التجربة السياسية عاشت الشخصيّة نشوة البهجة والفرح يوم 14 جانفي « .. أمام زرقة البحر عاد إليّ توازني لفّني الهواء بالاطمئنان و أعاد إليّ انتعاشة التحدّي و الاستعداد لاستقبال الآتي».
لقد وجدت في شعور النشوة بالثورة «ونخوة الانتماء إلى شعب صارت فيه كل القلوب تنبض بحب تونس» ما أعاد التوازن والإحساس بأنّ جهودها النضالية في سياق حراك الاحتجاج والمعارضة لم تذهب سدى‚ لقد سعدت بـ «أحلى أيّام عاشها الشعب التّونسي» وهي التي سخرت كلّ حبّها لاسم واحد» اسم واحد استقطب جهدي... اسم واحد أريد أن أفنى في عشقه: تونس البدء والمنتهى» وفي هذا القطاع من السيرة / المسيرة و الذي استغرق حيزا عظيما من الأعمال والأقوال و الأحوال في الحكاية والخطاب يكون الفرح مؤقتا و الالتقاء بالحلم خاطفا سرعان ما آل إلى الخيبة والانكسار على صخرة واقع متحجّر ‚ خيبة تضع كل الأحلام والجهود موضع التساؤل... وهي ليست خيبة فرديّة بل جماعية هي خيبة شخصية حركتها محكومة بحركة مجتمع بأسره «كان هناك اندماج كليّ بين ما يحصل حولي و ما يحصل بداخلي...».
إنها خيبة حلم الحرية و تحقيق أهداف الثورة... خيبة المناضلة الحقوقيّة و تجربتها الجمعياتية في إطار اللجنة الوطنية المستقلّة لإعداد المؤتمر الاستثنائي من أجل الاتحاد الوطني للمرأة ..
تقول في ترسّم هذا الإحباط الكلّي بعد اشراقات الحلم «إن الذي حصل في اتحاد المرأة هو صورة لما يحصل في البلاد. لا أمل في تحقيق أهداف الثورة ... خياران أمامنا: سيطرة حركة النهضة أو فلول التجمع ... ستبقى الساحة للمتسابقيْن الوطن بالنسبة إليهما مجال للاستثمار و الاستغلال».
تتداعى الانكسارات و تتجلّى مواجد حزن و إحباط في الخطاب في لوحات و مشاهد صريحة العبارة حينا متوسلة بالمجاز و التمثيل أحيانا كما في حكاية الصرّار الذي «يغنّي للثمار كي تنضج وهي حتما ستنضج . يظل ينشد للشمس يردد ابتهالاته.. لا يملّ .. تنظر الشمس من عليائها ... ترى إصراره تعلم أنه يستنزف كلّ قواه من أجل ذلك الحلم. قد يراه و قد لا يراه ولكنه يسكنه يلهب صوته حتى يسقط على قفاه دون حراك. صوته أكل روحه».
مرارة الفشل... و الحرمان من ثمرة الجهد نقل حياة الشخصية إلى الوحدة والضّيق «أشعر بالغربة. النّاس يعمون عن الشذا و العبير» هي غربة المثقف بوعيه الثوري الطلائعيّ و افتقاده لإيجاد انسجام مع الآخر ... ويبلغ الأمر حالة تزعزع الوعي على أعتاب الجنون «انفلت منّي عقلي . انفلت الميزان . هل هي مرحلة ما قبل الجنون هل هي مرحلة تسلم اللاّوعي فيها القيادة بعد تزعزع سلطة الوعي» ولاتجد خلاصها إلا في «الرسم بالكلمات» حين تجد في الكتابة ملجأ و مهربا من الحياة الواقعيّة «واصلت الانفصال التدريجيّ عن حياتي الواقعيّة و حلقت في الوهم الجميل ... لعلها حال كل الشّعراء لعله الشّعر».
ولم تكن تجربة الكتابة إلاّ مسلكا لإيجاد توازن بعد الوقوع في عبثيّه «هدم المتكلس وكسر الأطواق» بل لم تكن اختيارا ولعلها مصير الشخصية المحتوم نتيجة افتقاد التواصل في الواقع مع المجتمع تقول الراوية «خيط رقيق رفيع ربط بيني وبين فضاء جماعــي للحلـــم والفعل قد انقطع «هو بالتأكيد خيط النّضال لتحقيق الحلم... هذا المصير هو الانغلاق على الذات عودا على بدء «بيدي دفنت نفسي من جديد هل كان موقفي اختيارا أم أنّه ما سطرته مسيرة حياة قهريّة ترسبت في النّفس كالوحل فأفقدتها القدرة على التماسك».
هذا المآل المأسويّ منتهى مسيرة الشخصية التي تقرّ بمسؤوليتها عن هذه النهاية المحتومة بحكم أن المحرّك فيها لم يكن إلاّ وهما و أكذوبة « لماذا تخنقني، أكذوبتي تخاتلني إحساس زائف بالامتلاء حين أندمج مع ما ومن حولي ... في تصوري أن الحياة هي في صفاء العطر و الزهر «تلك الأوهام الناّبعة من الصّدق و العفويّة في غياب المعرفة النافذة بطبيعة الواقع إطار الفعل والعلاقات... كانت تسيّج تحقيق الكيان في كل مرّة ... في الحب و في الحياة الزوجيّة و في المسار الملحميّ لثورة مجهضة حادت عن السّمت الذي أريد لها... تقول الراوية مختزلة ذلك الانحراف بالثورة عن أهدافها» خرجت من هذه التجربة بخسارتين : خسارة أيّ أمل في رؤية هذه المنظمة العتيدة تتمتع باستقلاليتها و خسارة علاقاتي بصديقات ... ساهمن في عقد مؤتمر بعيد كلّ البعد عن الشفافيّة و النزاهة ...
ينغلق نصّ السيرة على خسارات تؤكّد ما اقتبسته من مسيرة علي بن السّلطان لتوصيف مسيرتها «لماذا اخترت طريق الخسارة» ولتصدق بذلك رؤية العرّافة استباقا في النّص حين قالت «انظري: الطريق مسدود ». هذه النهايات المتشابهة في المستوى الذاتي الفردي وفي المستوى الاجتماعي المجتمعي يجمع بينهما الانكسار بعد الجهد و الفرح المؤقت بثماره... وإنّ الكاتبة تصوّر في مواضع من خطاب السّيرة أسبابا لهذا الفشل الذاتي في رؤية الحلم يتجسـد واقعا قيميّـــا سياسيّا واقتصاديّا و اجتماعيّا «أرى فيه أبناء وطني معافين متعلمين أرى البيوت عامرة و الوجوه مشرقة أرى خدود الأطفال مورّدة وابتسامتهم وضّاءة لا أسمال ولا ضرائب و لا سجون في بلادي» على حدّ عبارة الراوية في تصوير حلم الشباب الذي كانت تحمله.
ومن هذه الأسباب الاختيار المتذبذب «كان زواجي مرتجلا وغير متوازن»... وتقر بخطإ الرؤية في سياق الاعتراف بالخطإ في اختيار الطريق تقول «ظننت بعد الثورة أننا دخلنا الجنة الجماعيّة ... و لكن كم كنت مخطئة وتشير بعد فشل الثورة في أرض الواقع إلى أسباب شتّى وراء الخيبة تقول في حيرة وشكوى «هل كان هناك تخطيط دولي... الأحزاب الديمقراطية ... كانت تتخبط في هشاشتها الداخليّة و في عزلتها الخارجيّة في شطحات الاحتجاجات المتواصلة «و لعلّ هذه الأحلام و الرغبات كانت» باندلاق سرياليّ ... لا تدرك معه حقائق الواقع في تفاصيله و شبكات العلاقات وطبيعتها المعطّلة للوعي أو المزيّفة له والمهمّشة بما جعل النخبة الحالمة المناضلة لا تشعر «بالماء يسري تحت أقدامنا» كما تقول الراوية و إنّ واقع النخبة المثقّفة غابت عنه الأريحيّة الضرورية في التحليل و التوصيف فغالبا ما يتحول النقاش «إلى لجاجة و الإقناع إلى تعنيف» .
وتتواتر مفردات الخيبة و الفشل و الإحباط و الألم في نص السّيرة و لا تجد الشخصيّة أحلامها إلاّ في الشعر وهو عالم الفرديّة و القطيعة عن المجتمع و الفعل المغيّر.. تقول «واصلت الانفصال التدريجيّ عن حياتي الواقعيّة و حلّقت في الوهم الجميل» هي قطيعة مسيرة حياة قهريّة... يتّصل فيها حلم المثقّفة الحقوقية المناضلة النسويّة . وسرعان ما ينفصل فينقطع الخيط الرفيع الرابط بينهما و بين نظرائها من ناحية وبين الفضاء الجماعيّ للحلم و الفعل... من ناحية أخرى و يغيب الاندماج بين العاملين و يبقى قدر الراوية أن تظل تبحث عن «إحساس الاندماج والدفء لكن دوما في المياه المالحة» وهذه القطيعة بين المثقف العضوي و الواقع تتواصل فيغترب المثقف ويتباطأ العالم الجديد الذي تتوق إليه في الظهور ...ويبقى مجال الحلم بالاندماج والتغيير الوهم و الخيال والمياه المالحة لا تتذوق فيها الراوية عذوبة أحلامها واقعا جديدا في الوطن مياه مالحة أجاجة تحصّن الجسد من حرارة الشمس و لكن لا تخصب أحلاما و آمالا جعلتها الراوية مبرّر وجودها و حركتها وفعلها في هذا «الغلس».
ويصحّ قول الراوية في فاتحة السيرة أنها اختارت طريق الخسارة فظلّ بحثها دوما عن الدفء والاندماج ولكن في مقابل الخسران الذي طوّق مسيرتها كان الرّبح للكتابة بأن أنشأت نصّا في فنّ السيرة رائدا في الأدب النسوي التونسيّ على درجة عالية من الشعريّة ولكن تلك قضيّة أخرى ... و يبقى الأدب الحقّ هو أن «تحلم النّفـس بكل شيء».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115