مسرحية «بغداد NH4+» لعلي دعيم في المسرح البلدي: بين الخوف من الآخرة وظلم الواقع يتيه الإنسان

هل فكرت يوما في الآخرة؟ هل تخيلت نفسك وأنت تسير على الصراط تنتظر دورك للحساب ومعرفة ما الذي خزنته الملائكة في صحيفتك؟

هل لك القدرة على تخيل الله أمامك يحاسبك ويسائلك؟ ألا ترى أن السلطة الذكورية والقبلية في المجتمعات العربية تتماهى مع سلطة الله في حديثه عن الحساب والعقاب؟ هكذا تتساءل الأجساد عن ثنائية الحياة والموت في مسرحية «بغداد NH4+» للمخرج علي دعيم.

هي مسرحية راقصة تكون الأجساد فيها صوت الإنسان والمجتمع، لغة الجسد تتجاوز كل اللغات المنطوقة لتقدم لجمهور المسرح البلدي متعة مسرحية وفرجة تدفع المتفرج إلى التفكير وطرح السؤال عن العقاب والحساب والتخيير والتسيير، عمل أبدع في تقديمه كل من مؤمل حيدر ومرتضى علي عبد الحسن وعلاء قحطان وعبد الله سعدون شميلاوي وفكرت حسن علوان وسيف رعد علاوي وسهيل نجد وفي نهاية المسرحية لم ينسوا توجيه التحية للشهيد «صفاء السراء» ، فالمسرح وعاء للحقائق والثورات وقصص الوطن.

أيهم اشدّ قسوة؟ الإنسان؟ أم الله؟
صوت ترتيل القرآن يصدح في القاعة، يرتفع الصوت تدريجيا، الضوء يقسم الركح في شكل مستطيلات تشبه القبر، أو الصراط فأوله مضاء نعرف ما فوقه وآخره هناك مظلم لا نرى ما فيه، يزداد صوت ترتيل القرآن ليخرج رجل يلبس الأسود (لون الحداد والعزاء وعنوان الموت) ويلتحف بشاشه العراقي التقليدي، يخفت صوت القرآن ليظهر ثلاثة راقصين بلباسهم الأسود يحيون الشيخ ويعزونه في الفقيد ثمّ يسجدون قليلا كأنها صلاة على الميت ثمّ يغادرون الركح، حينها يرقص الممثل، يرتفع صوت ترتيل القرآن من جديد وتبدأ حركات الكوريغراف تعاند صوت القارئ، تتسارع ضربات الأقدام على الركح ومعها إشارات اليد كأنها تمسح الذنوب عن الجسد قبل أن ينتقل إلى العالم الآخر.

يتراجع صوت ترتيل القرآن، يضعف تدريجيا، يتوزع الضوء كامل على الركح صورة سينمائية مختلفة يشاهدها جمهور المسرح، يتوقف صوت ترتيل القرآن ليرتفع صوت يشبه النحيب والنشيج، موسيقى مختلفة تبدو كأنها أغنية لامرأة قد تكون الأغنية شعبية أو هي استحضار صفات الميت ومع تقدمها يتضح أنها «القوالة» أي اللّطميات التي تقدمها النسوة العراقيات في كل عزاء، واللّطميات موسيقى مختلفة تتفنن فيها المرأة العراقية في تجويدها وغنائها وكأنها تكتب مآسي العراق عبر قرون وتلحنها بلحن موجع قاتل مثل السيف، فاللّطميات تصبح ذات بعد سيميائي في المسرحية هي جزء من الذاكرة الجماعية العراقية تصبح موسيقى مميزة تتماهى مع سينوغرافية العرض وتؤثر فيه وتؤثر في المشاهد وتبعث فيه روح السؤال.

تتواصل أحداث العمل ويظلم الرّكح بينما ينبعث ضوء خفيف من الهناك، وبتقنية خيال الظل نجد تجسيدا لملامح شخص ما، ملامحه غائبة فقط يحضر الهيكل، وأمامه الجثة التي تشدها الملائكة، هو تجسيد ليوم الحساب بعد المرور على الصراط والاسئلة الكثيرة التي توجه للانسان بعد بعثه، وكلما تكلم من يقف خلف الستارة وتتناثر الأوراق البيضاء وهي التي تحوي حسنات وسيئات الإنسان، من خلف الشاشة تحدث عملية الحساب ينتفض جسد الميت، الملائكة تتحرك بطريقة غير متزنة ولا متناسقة كأنها ترمز إلى لحظات خوف أو لخبطة أثناء السؤال، ثمّ تعود الأحداث إلى الرّكح وبين الهنا والهناك تكون الرحلة النفسية، رحلة نرى انّ الله يستطيع السماح بينما البشر لا يسامح فالإنسان أكثر قسوة من الخالق.

الترميز لكتابة الذاكرة العراقية
رحلة مسرحية بيين عالمين متناقضين، عالم الارض وعالم الآخرة، رحلة من عالم نعرف تفاصيله الى اخر ميتافيزيقي لا نعرف عنه شيئا فقط ما جاء في القرآن والكتب السماوية، رحلة ممتعة صنعتها اجساد الممثلين، في مسرحية تعتمد على الترميز والشيفرات لتكتب أحداث العراق بطريقة مختلفة.

على الركح تتناثر الأوراق البيضاء، وصاحبها ساجد خائف وخلفه ثلاثة أجساد تضربه حينا وتسخر حينا آخر صورة تعود بالذاكرة الى العلماء عبر التاريخ، وتحمل المتفرج إلى ذكرى كتاب تجرؤوا على نقد الدين وتأليف كتب يرى الحاكم أنها «الحاد» ووجب قتل صاحبها وحرق كتاباته، الأوراق البيضاء المتناثرة في الهواء كأنها رمز لتلك الكتب والوثائق التاريخية التي أكلتها نيران السلطة والحقد والخوف من النور والعلم وقد عانت العراق كثيرا من صلب كتّاب ومفكرين بتهمة الإلحاد عبر السنين.

لغة الجسد اشد اللغات تعبيرا وصدقا، لغة قادرة على الدخول الى تفاصيل النفس البشرية والتعبير عن عذاباتها، لغة يبدع علي دعيم في تناولها في أعماله، وفي بغداد NH4+ تتواصل الإشارات الرمزية والترميز في المسرحية، فخلف تلك الشاشة تظهر صورة لشخص ما وهو يشدّ ميتا اليه، لتخرج الصورة على الركح وتجدك امام شخص مقيد بحبال كأنها السلاسل والمشهد مقتبس من سورة «الحاقة» «واما من أٌوتَ كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوتَ كِتَابيهْ وام ادر ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية، ما اغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، خذوه فغلّوه،ثمّ الجحيم صلّوه، ثٌمَ في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه».

مشهد العقاب يتكرر في المسرحية، كذلك مشهد الوجع، فالعمل يميل الى الترميز لكشف المعاناة التي يعيشها الانسان فهو مثقل بوجع الوطن في حياته ومثقل بوجع السيئات في الاخرة، وتلك هي حالة بغداد تنهض من وجع وحرب لتسقط في اخرى.

اسم المسرحية «بغداد NH4+ كلمة تتكون من مترادفتين الاولى اسم مدينة والثانية اختصار مركب الامونيون والنيتروجين، جمع بين اسم علم وشيفرة علمية فهل أن البشر مجموعة من الذرات؟ ام انّ البشر بمثابة الامونيوم؟ ام ان سماء بغداد تحتاج إلى هواء جديد بسبب النيتروجين الذي يخلفه القصف؟ اسئلة عديدة يطرحها الاسم فالمخرج ميّال الى دفهعك للحيرة والتساؤل اذ يقول «جميع الأعمال الي قدمتها والذي سوف اقدمها تقوم على الترميز،انا دائما أبحث عن الاسماء التي تترك أثرا عند القارئ وفيها رمزيه عميقة وغير محدودة حتى يتسنى للقارئ او المتلقي عموما أن يسرح في خياله مع عنوان العمل الذي يجب أن يكون مهمّا بالنسبة اليه وأنا أعتبر أن العمل يبدأ عرضه عندما تضع عنوان أو إسم العمل ولذلك دائما اختار اسما لافتا لأعمالي وكأنها مشهد من مشاهد العمل بحيث يترك الاسم تساؤلا كبيرا عند الآخر».

وعلى الركح عاش الجمهور رحلة مسرحية حاول عبرها تفكيك الشيفرات والرموز التي كتبتها اجساد الممثلين بكل حرفية، ممثلين حمّلوا وجع بغداد ونقلوه الى الجمهور التونسي من خلال لغة لا تحتاج إلى ترجمة وسينوغرافيا وموسيقى تدخل الى الذاكرة الجماعية العراقية وتبسطها امام الجمهور.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115