مسرحية «الكرينتي» إخراج الصادق عمار إنتاج سجن المسعدين - سوسة: المسرح في السجن شمعة تضيء عروق الظلمة...

الأمل، الحلم، الابتسامة، الحق في الحياة والحق في الإبداع، الحق في مستقبل أفضل والعودة إلى الأهل والأصدقاء والحياة الطبيعية

رغم تجربة السجن، الحق في الحياة الكريمة في الوطن هذه هي أبرز الكلمات التي تتكرر في مسرحية «الكرينتي» التي قدمت في إطار مسرح الحرية ضمن أيام قرطاج المسرحية.

«الكرينتي» مسرحية من أداء أبناء نادي المسرح بسجن المسعدين سوسة وإخراج الصادق عمار وهي تجرية ناقدة تعري المشاكل التي يعيشها التونسي وتكشف عن ظلم المجتمع وقسوة «السيستام» وتنقد ظاهرة المخدرات وتأثيرها على الشباب وهي صرخة للحرية ودعوة صريحة للتمسك بالحلم و«ما يدوم حال ديما ثمة ضو آخر النفق».

بين السخرية والوجع يكشف بؤس البلاد
صفارات إنذار، أصوات تنذر بمصيبة أو حرب ما، أصوات الرصاص ترتفع، تظهر 11شخصية على الركح، أصواتها تحاول أن تغلب موسيقى الرصاص فيقولون «حكاية، رواية، غناية، كل حكاية ليها نهاية، في بلاد كيما كل بلاد، وعباد كيما كل عباد، حكايتنا نعرفوا وقتاش بدات، اما مانعرفوش وقتاش توفى» وحكاية «الكرينتي» هي قصة تونسيين كثيرين وأحلام أكثرهم أكلها البحر وتغذى بها السمك لأنهم لم يجدوا مكانا لهم ولأحلامهم في وطنهم فسلام على الصامدين.

المكان في المسرحية أمكنة، فهوة مرة منزل الفنان، ومرة أخرى قهوة عم الهادي ليتحول إلى فضاء للاختلاء بالسيجارة والمخدرات ومرة «الشقف» صديق الحالمين بالعيش الرغيد في «بلاد الطليان» والديكور البسيط (3مقاعد) يتحول بتحوّل المكان وأجساد الشخصيات تصنع موسيقى العرض من خلال الحركات المتسارعة حينا والهادئة أحيانا.

في «الكرينتي» نقد للسيستام من خلال مشهد يصور لقاء بين جلاد قديم وسجينين اعتقلا بتهم سياسية فعذّبا وسجنا وقصفت أحلامهما، بعد سنوات يقابلان جلادهما فيخبرهما أنه فقط «نطبق في الأوامر، موش مني من السيستام».

نقدوا ظاهرة المخدرات المنتشرة عبر شخصيتي «شطر» و «حربوشة» اللذين أدمنا المخدرات حتى باتت متنفسهما كلما اسودت الحياة وأظلمت المعيشة، المخدرات بكل تأثيراتها السلبية على عقل الإنسان «نعملوا صاروخ، نطيروا، اما نرجعوا لقب الرحى».

لان المسرح نقد وحركة محتجة، نقدت المسرحية ظاهرة البطالة وتفشيها من خلال شخصية الدكتور (للاشارة هو سجين أنهى عقوبته لكنه أصر على العودة لتقديم المسرحية مع اترابه على الركح) الذي عانى الكثير ليتحصل على السيزيام ثم النوفيام وكلما تحدث عن شهادة ياتيه صدى صوت «ان شاء الله في ما اهم»، درس وهو المقبل من الهناك من البعيد حدّ الحصول على الدكتوراه ثم كانت البطالة نصيبه مثل غيره من أصحاب الشهائد العليا، مشهد مملوء بالشجن والوجع.

تتواصل الرحلة الساخرة والموجعة، يتواصل النقد الذي تقدمه الشخصيات في الكرينتي، يتواصل الكشف عن الأحلام المسروقة والحق المنهوب فهذا «المتقاعد» هو الاخر يحدث الجمهور عن وجعه ويصف نفسه بالـ «موت-قاعد» هنا لعب بالمترادفات للاحالة على معاناة المتقاعدين ايضا.

في «كرينتي» يحضر الوجع في أشكال مختلفة، الشخصيات هي نحن على الركح فداخل كل واحد من الجمهور وجع يتشارك فيه مع الشخصية، ماقدموه على الركح كان الحقيقة المخيفة التي نحاول تجاهلها لكن الممثلين كانوا اكثر جرأة وصدقا في طرحها.

هل يموت الامل؟
الموسيقى والضوء أصبحا شخصيات في العمل فهما رديف لحركات الممثلين على الركح، تجتمع الشخصيات في مكان واحد هو «الشقف» اختلفت أفكارهم وانتماءاتهم وأراؤهم لكن جمعتهم الرغبة في مغادرة وطنهم بحثا عن مكان أفضل يحترم انسانيتهم، بعد أن «دارت عجلة الزمان وبدات تطفي في الإنسان وأحلامه الحلوة» يجتمعون في «الشقف» الدكتور و «الرابور» و «المتقاعد» و»البطال» جميعهم يريدون الرحيل وترك الوطن الذي أحبه الشاعر «من الاثنين للاحد» فهل سيموت الامل؟ هل ستموت شخصيات المسرحية ومعها مستقبل الدكتور وتأكل الأسماك حقيبة شهائده؟ هل ستسكت صرخات المحامي في دفاعه عن المظلومين؟ وأسئلة أخرى تطرح بعد أن يخبره الرايس أن «الفلوكة دخلها الماء»، حينها ترتفع الأصوات لتقول «أحنا حلمنا، أحنا توجعنا أما الدواء بح، أحنا جعنا لا ساومنال لا بعنا، احنا كنّا واخواتها، احنا صحنا، نبهنا، قرينا وعلمنا، وحد ما فهمنا، ويبارك في ترابك اش يلم ويرمي في الغريق»،لتنطفئ الأضواء، ثم يخرج ممثلان يطلبان إشعال الضوء وإضافة «أحنا غلطنا وخلصنا، وما يدوم حال في اخر الننفق ديما ثمة الضوء» فالعمل رغم الوجع والنقد يزرع للامل ويرسم للابداع ويؤكد انّ ممارسة الفن هي ولادة متجددة.

الفن حياة:
يمسك عوده يعزف ايقاعات رقيقة ويغني لمارسال خليفة «احن الى خبز امي وقهوة امي» هناك وحيد يجلس كانه يحاول الانزواء عن اصوات الرصاص ورائحة الموت والدم، ملثمين اثنين يقتحمان خلوته ويحطمان ايقاعاته ويسالانه عما يفعل فيجيب «اغني، اصنع الموسيقى» حينها تنطلق قهقهة سخرية ترافق بصور لاضواء قوية في الخلفية كما الانذار ، سخرية من الفنانة فيجيب «نعرف ماتحبوش الفن، لان الفن هو الذوبان في الذات الالاهية» فيجيونه «الفن حرام، الموسيقى حرام» وتبدأ الحرب بين عاشق الحياة وزارعي الموت، المشهد انتصار للفن وللفنان، هو انتصار للحياة فالفن وسيلة للحرية للتعبير ولتجاوز كل القيود والحدود.

• هوامش:
في عرض «الكرينتي» ممثلان أنهيا مدة الحكم لكنهما أصرّا على العودة الى الركح لمشاركة اترابهم العمل، بعد انتهاء العمل كان توديع المحررين لأصدقائهم موجعا جدا إلى حدّ تعلق احدهم برفيقه تعلق الوليد بأمه، وعودتها الى السجن فقط لعرض المسرحية يكشف عن قدرة الفن على التغيير وقدرة الفن على مصالحة الذات مع ذاتها.
أغلب العروض المسرحية التي أنجزها السجناء تتميز بالجرأة في الطرح والنقد ومن خلال مسرحية الكرينتي يبدو ان هناك هامشا من الحرية وربما عدم وجود الصنصرة فلو وجدت لما مرّر مشهد التعذيب ولا النقد المباشر للسجان اثناء التحقيق.

• ملاحظة: العروض التي يقدمها السجناء اغلبها تشترك في الاحترافية والجودة فلمَ لا توفر السلطة المشرفة الفرصة لنقاش العروض المسرحية بعد انتهاء العرض ليعبر السجين ويتحدث عن المسرح وعن دوره وعن تأثير النادي في شخصيته وكيفية تقمصه للشخصية؟.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115