مسرح السجون ضمن أيام قرطاج المسرحية في برج الرومي: «خلي المحبّة عملتنا» في مسرحية «جوجمة، حس»إخراج محمد أمين الزواوي

من المريض ومن المجنون؟ هل أن المريض ذلك الذي يقبع في غرفة مغلقة يقيّد دوما وكلما صرخ يحقن ليُسكت صوته؟ أم أن المريض

هو الطبيب الذي يقرأ مئات الكتب والدراسات ويشارك في الندوات والمنتديات لكنه يعجز عن الاقتراب من المريض؟ أيهما المجنون الإنسان الحالم الذي يصنع عالمه ويلون أفكاره أم الممرض العاجز عن التفكير؟ أيهما الأصدق المسجون أم سجانه؟ أيهما الأكثر إنسانية الطبيب أم المجنون؟

هكذا يتساءل محمد أمين الزواوي ونضال الدين معزي في مسرحية «جوجمة، حس» التي افتتحت فعاليات «مسرح الحرية» ضمن تظاهرة أيام قرطاج المسرحية وهي من تقديم مختبر المسرح بسجن برج الرومي الذي يشارك للمرة الثالثة في المهرجان وللإشارة ففي العام 2017كان نادي المسرح بهذا السجن اوّل من قدم عملا مسرحيا أمّنه المساجين آنذاك وقدم في فضاء التياترو، وفي هذا العرض «جوجمة، حس» يقدم النادي مسرحية تجمع بين الكوميديا والتراجيديا لنقد الإنسان.

الفن وسيلة للعلاج
موسيقى هادئة، ألوان تنتشر في الشاشة الخلفية، تقنية خيال الظل تبدأ معها أحداث المسرحية، شخصية تلبس الأبيض والأسود تبدو كأنها تحرك الشاشة وتتحكم في تفاصيلها، إلى العوالم النفسية للطفل تكون الرحلة الأولية، قبل أن تتغير الموسيقى وعوض الألوان يكون هناك برق ورعد، غضب الطبيعة رمزية لغليان قلب إحدى الشخصيات، يخفت الضوء وتظهر على الركح تسع شخصيات، تحمل الجمهور إلى عالمها.

إلى عوالم الجنون تكون الرحلة المسرحية، عمل يرشح وجعا، هي رحلة إلى تفاصيل «حريقة» المريض بالكذب و«فكرون» المريض بفقدان الهوية و»فجعة» المريض بالخوف، ثلاث حالات مرضية يباشرها الدكتور «اسيل» المتشبع بالدراسات والكتابات النفسية وسيلته الوحيدة في العلاج هي العقاب والكهرباء.

الرحلة تبدأ مع ظهور طبيب جديد «رستم» الشاب المؤمن بالتجديد «قريب تولي كيفهم دكتور، المشكل في الطرق التي تستعملها فهم «حالات تشبهلنا، احنا كيفهم» كما يقول متقمص شخصية الدكتور، رستم فنان يؤمن بأن الفن وسيلة للعلاج، حينها يقرر خوض تجربة المرض والعيش مع المرضى في نفس الغرفة والتعرض للعقاب مثلهم، للاقتراب أكثر من الإنسان داخلهم.

وحسب الطبيب الشباب جميعنا مرضى، كلنا نكذب فمن منا لا يكذب؟ جميعنا نعيش أزمة هوية في داخلنا الكثير من الخوف فنحن نشترك معهم في المرض والجنون أيضا، الفرق الوحيد أن المجنون يوضع في مصحة ونحن نعيش جنوننا في الخارج.

تتواصل الأحداث، ديكور المسرحية شبه منعدم فقط مجموعة من الصناديق المربعة بيضاء اللون، تتغير حسب الأحداث وأجساد الممثلين وحركاتهم هي التعبيرة عن تغير المكان وتغير الأحداث، رحلة صعبة يخوضها رستم، رحلة يدعو فيها الجمهور إلى التصالح مع ذاته ليحلم ويتمسك بحقه في الحلم «يلزم نحلموا، يلزم نتحرروا من الخوف، يلزم حلمتنا تهزنا لبعيد» والفن هو الوسيلة القادرة على معالجة المرض والرحيل بنا إلى عوالم الحلم.

جميعنا مرضى وكلنا نريد الشفاء
«جوجمة حس» هو اسم المسرحية منذ العنوان ودلالته تكون الرحلة إلى مكان يكثر فيه الضجيج، ضجيج نفسي وفكري، ضجيج هو تعبيرة عن الذكريات المخبأة في ذاكرة المريض، هي عذابات الطفولة ووجع المجتمع ، «جوجمة حس» نقد مباشر لطرق العلاج المهترئة «يلزم نفكر في علم نفس جديد، يجب أن نغيّر، ونفكر في مواكبة العصر وتطوراته» هكذا يقول الطبيب المبتدئ لاستاذه، جملة تنطلق من الخاص الى العام من شخصيات مريضة الى المطلق فجميعنا جزء من منظومة ظالمة، داخل كل منا وحش اسمه «العنف» نتظاهر بعدم وجوده لكنه يسكننا، هذا الوحش في المسرحية يأخذ اسم «علالة وجابر» الممرضين اللذين يتلذذان بتعذيب المرضى «الفكرة يلزم نخنقوها، نردموها، الخوف نكبروه ونرعاوه».

في «جوجمة حس» الكثير من الوجع، أداء صادق للممثلين نقلوا من خلاله وجع السجن وفقدان الحرية فكان الجانب التراجيدي موجعا مبكيا وصادقا جدا، وكان الأشخاص هم الذين يتحدثون عن وجعهم وليسوا مجرد أصوات الشخصيات، في «جوجمة حس» استعمل المخرج تقنيات الفيديو والمابينغ،وسينوغرافيا اعتمدت على التقنيات الضوئية الحديثة وهي من إبداع أحد السجناء، فاجتمعت كل تعابير الفرجة لتقدم نصا مسرحيا ناقدا وساخرا، مسرحية ترشح وجعا، مسرحية تحاول أن توقظ الإنسان فينا وتدغدغ أركان الذاكرة المخفية علّ الإنسانية تستيقظ فينا وتجعلنا نصارح ذواتنا ونسائلها عن طريقتنا في التعامل مع الآخر وخاصة المختلف عنّا، هي دعوة للمصالحة مع الذات ومساءلتها إلى حدّ البكاء فالبكاء يروي الاحساس «ابكي بالك الدمعة تروي الإحساس، ابكي بالك الدمعة تولي فكرة، حلمة بنينة تنبت الورد في الصحراء، كلمة تنبت محبة، خلّي المحبة عملتنا».

«جوجمة حس» أبدع في ادائها سجناء برج الرومي، اتحدت تفاصيل المتعة الفرجوية مع مخرج ذكي يتقن جيدا التعامل مع الرّكح والممثلين لتقديم عمل إنساني يكشف انّ ليس للإبداع حدود وأن كل الجدران تعجز عن تفتيت الحق في الحلم، فاحلموا.

السجان والمدير يهديان الورد إلى المسجون
فقط في تونس تنقلب الصورة ويصبح المساجين أسياد الركح والفضاء وفي بادرة جد نبيلة أهدى الأعوان والموظفون ومدير سجن برج الرومي الورود الى كلّ المساجين الممثلين وتلك هي تباشير الديمقراطية.
فضاء التياترو يهديهم كتبا وتسجيلات فريدة لأغلب عروض التياترو والفنانين الملتزمين الذين زاروا الفضاء، هدية قدمتها زينب فرحات اعترافا بجمالية العرض الذي قدمه نادي المسرح بسجن برج الرومي في 2017 وكان ذلك اوّل عروض السجون.
تفاعلت عائلات المساجين أثناء العرض فبعد أن قال الممثل «نخلة مات» كانت زفرة الامّ وصراخها بطريقة لا ارادية «اللطف على ولدي».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115