ومزجا عجيبا بين تداخل الذاتي والموضوعي... فلا نعلم هل نحن أمام صرخة فنان أنهكه عشق المسرح الذي كان هو البدايات والنهايات في عمره أم انتفاضة وطن جريح بسكين الفساد وطعنة بارونات التهريب و خفافيش الإرهاب؟!
يأتي إنتاج مسرحية «دولاب» (النّار الباردة) في سياق الاحتفال بمرور ثلاثين سنة على تأسيس «دار السندباد» وذلك بعد إصدار كتاب «مسرح السندباد: النشأة والمسار» عن الهيئة العربية للمسرح.
وقد كان جمهور المسرح على موعد مع «دولاب»حمادي المزّي بدار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة، مساء السبت 28 سبتمبر 2019.
انتفاضة الحياة في أجساد ميّتة
لئن كان «الدُّولاب» في أحد معانيه بقاموس المعاني «كلّ أداة تدور وتُحدث حركة تدفع غيرها..» فلا شك أنه في لهجتنا العاميّة يرتبط بدوران عجلة الحظ والمال من أجل كسب مشروع... وأحيانا ربح غير مشروع. فليس من الغريب أن يسم الكاتب والمخرج المسرحي حمادي المزي عمله الجديد بعنوان «دولاب» ( النّار الباردة) في استعارة لحكاية أسرة تقتات من لقمة التهريب تحت سلطة وسطوة أب يتاجر في الممنوعات ويدير «الدولاب« في مخالفة للقانون وعبر شبكات «السوق السوداء».
في أجواء قاتمة الألوان وضبابية الأفق، تجسّد شخصيات «دولاب« (النّار الباردة) حكاية أسرة عديمة الالتزام بالقانون ومعدومة الإحساس بالأمان أمام تهديد مداهمة رجال الأمن في كل يوم وكل حين !
وعلى الركح يتعرّى أفراد الأسرة من عقدهم و أسرارهم وينفضون غبار صرخاتهم المكتومة... فيبوحون بآمالهم وآلامهم وينتفضون في وجه قدر ظالم وقسوة حياة تواطؤوا معها على أنفسهم وإنسانيتهم.
هي حكايات «جبريل» الأب الذي تقاسم اليتم والسجن وتجارة الممنوعات سنوات عمره، و«مريم» الأم التي ضحّت بشبابها وأخرست جسدها في سبيل زوجها وأبنائها فلم تجن سوى الشوك والوجع... وما بين الأبوين، يصارع الولدان من أجل مصير أفضل سواء بممارسة مهنة المسرح أو لعبة كرة القدم... لكنهما يصطدمان بحواجز عائلية واجتماعية وقانونية أقوى من صرخة الشباب فيهم. وفي محيط عائلة جبريل يتزلف الصديق الانتهازي ويهادن العمّ الإرهابي أخاه تاجر الخمر في وصولية مقيتة.
وليست الأسرة المشتتة، المفككة، الخارجة عن القانون... سوى صورة مصغرة عن المجتمع التونسي الذي ينخره سوس الفساد والعالق بين فكي كماشة التهريب والإرهاب.
صرخة المسرح في وجه الجحود
«ميم وسين و راء و حاء «أربعة حروف من ماء ونار، عشق وعرق، حبر وبحر... تكتب بأحرف من تاج مسرح الإنسان والحياة». إنه المسرح الذي يختلط بالدم في العروق ويمتزج بالنبض في القلب عند شيوخه ومريديه... نعم إنه أب الفنون الذي يستحيل إلى عقيدة وديانة وشريعة لتشييد مدينة السلام والفضائل والجمال...
في مشهد من أجمل فصول مسرحية «دولاب» أو محطات «النار الباردة» كانت صرخة المسرح مدوية، مؤثرة، مخجلة لكل من سوّلت له الإساءة إلى هذا الفن النبيل من قريب أومن بعيد. وكأننا أمام «مونولوغ» يبوح فيه أحد أبناء تاجر الممنوعات بعشق المسرح إلى حدّ النخاع، حدّ الهيام، حدّ الجنون... وقد أجاد الممثل الشاب رامي الشارني لعب هذا الدور بمنتهى التقمّص والديناميكية بواسطة جسد يتلظى عشقا بنار المسرح ويتأوّه قهرا من عذابه ويبكي ألما من فقدانه وينفطر إلى شظايا بسلاحه... أمام هذا الجسد الناطق لسانا وأيضا تعبيرات وإيماءات، يلوح لنا من وراء الكلمات المسرحي حمادي المزّي ساردا لقصته مع المسرح الذي «هو مأساة أو لا يكون» وراويا لمعاناته في مطاردة الفن الرابع وسط حقل من الألغام والمحسوبية ومحاولات تمييع الركح ليرقص على إيقاع الطبل والمزمار... فإذا بالمخرج وصاحب النص ينطق على لسان شخصيته: » لقد اشتعل الرأس شيبا وحفيّت الأقدام بين أروقة الوزارة في تأبط لملف الدعم من مكتب إلى مكتب... حتى ضاع العمر»!
الجريمة واحدة سواء ألبست البياض أو السواد
اختار المخرج حمادي المزي أن يلاعب أحداثه على حبال معلقة وأن يراقص شخصياته على إيقاع صناديق علب الجعة في حركتي التزوّد والشحن...وكأننا بهذه الحبال تنتفض من كونها مجرد ديكور معلّق لتتخذ رمز الضغط والخطر والتهديد، فمن الممكن أن يلتف هذا الحبل في أي لحظة على رقاب المارقين عن القانون والمتواطئين مع الإرهاب والتهريب .
كما تميّز فضاء مسرحية «دولاب» (النار الباردة)، بالانغلاق والضيق مما يوحي بسلب الحرية وانعدام الأمن والإحساس بالمعاناة. وكانت المسرحية ثرية بالإيقاعات الموسيقية والأغاني وحتى صوت الراوي... وما بين المؤثرات الصوتية والحدث الدرامي كانت الصلة وثيقة وعضوية في تلخيص للحدث أو التعليق عليه أو التنبؤ به...
ولئن يحسب للمسرحية الإيجاز والبلاغة في إيصال المقصود دون تمطيط أو إطالة، فإنّ هذا لا ينفي وقوعها في شيء من المباشراتية وتعثر مسار حسن التخلص بين المشاهد في بعض المواضع.
على ركح «دولاب» (النار الباردة)، أبدع المخرج حمادي المزي في حياكة تفاصيل مشهد النهاية حيث استبدل الستائر البيضاء المعلقة على ديكور الحبال قصد إخفاء تجارة الممنوعات عن عيون المجتمع والقانون بستائر سوداء بعد تبّدل صاحب التجارة من خرّيج سجون إلى متخفّ برداء الدين... ولكن تغيّرت الألوان وتبدّلت الأزياء وبقيت البضاعة الممنوعة على حالها ! ففي ظل دواليب التهريب تنتفخ بطون الإرهاب.
• الجذاذة الفنية لمسرحية « دولاب »
- نصّ وإخراج: حمّادي المزّي
- تمثيل: يحيى الفايدي ونادر بلعيد ومروان الميساوي وأُنس الهمّامي وصالح الظّاهري ورامي الشّارني.
- توضيب الصّوت والإضاءة: محمّد رشاد بلعم
- الملابس: ليلى البوعزيزي
- أنفوغرافيا: الطّاهر القرجي
- فيديو: معاذ قرامي
- مساعد المخرج: مريم عزيّز
- إنتاج: دار سندباد بدعم من وزارة الشّؤون الثّقافيّة