العرض الأول لمسرحية «سيرة الألواح المنسية» لأنس العبيدي: ملحمة وجودية بروح الشعر وجسد المسرح

كيف يمكن للشعر أن يصبح ناطقا بلسان الحياة على الركح؟ وكيف يمكن للكلمات أن تتحوّل إلى كائنات من لحم ودم ترقص وتبكي وتغنّي...؟

وهل من السهل تحويل صور شعرية باذخة في رموزها وشاعريتها وفلسفتها إلى لوحات حيّة ومشاهد مسرحية تعيد تشكيل الحرف والمعنى؟ إنها مغامرة شجاعة أقدم عليها المسرحي أنس العبيدي في عمله الجديد «سيرة الألواح المنسية» الذي اتخذّ من ديوان الشاعرة سلوى الرابحي رحم خصوبة لبعث «سلرى» الأسطورة والولادة والملحمة على خشبة المسرح.

في إنتاج جديد لشركة مسرح الجنوب بقفصة، احتضنت قاعة الفن الرابع بالعاصمة العرض الأول لمسرحية «سيرة الألواح المنسية، سلرى» دراماتورجيا وإخراج أنس العبيدي محافظا على العنوان نفسه للديوان الشعري لسلوى الرابحي الذي كان منطلق العمل وسنده ومتنه...

التقاء بين شاعرية قصيدة وشعرية مسرحية
في استهلال عرض «سيرة الألواح المنسية، سلرى»، كانت المصافحة مع موسيقى عذبة وشجية يلتقي فيها شجن شكوى الناي مع وجع ضربات الطبل ... ليتجلى ديكور المسرحية، لوحات قديمة محفورة عليها حروف ورموز الكتابة المسمارية وكأننا في معبد من معابد حضارات الشرق القديم. مما يوحي بطبيعة مناخات العرض التي تطرق باب البدايات وترجع بعقارب الساعة إلى الوراء... إلى زمن العهود الغابرة والنشأة الأولى.

ولئن كان ديوان الشاعرة سلوى الرابحي يبحث في قصص الألواح المنسية وراء الغمام والمنثورة كريش النعام في سيرة الخلق والبعث، فقد كانت سينوغرافيا المسرحية المنبعثة من جوف الشعر وفيّة لتركيبة القصيدة ومنسجمة مع أجواء صورها الشعرية.

على ركح «سيرة الألواح المنسية، سلرى»،لا نملك إلا الخشوع لتراتيل نص شعري بديع النظم ومغرق في الرمز والتسمّر أمام تجسيد ركحي آسر للحواس و مداعب للخيال، فإذا نحن أمام عشقين: عشق للشعر وعشق للمسرح !

أنشودة حياة من الشعر إلى المسرح
«مِن مرقدِ ثورٍ أبيضَ لاحت عشبةَ طينٍ... مِنْ معبدِ آلهةِ الأرضِ تجلّتْ ... في مرقصِ موتٍ تتشكلُ سلرى». إنها « سلري » التي بعثت في الرابع من آيار لترقص على حافة الحياة وتراقص الموت. إنها انتفاضة الأسطورة لاستعادة اللحظة والإرادة ولإعادة كتابة «سيرة الألواح المنسية» وتصحيح أساطير الخلق الأولى وبداية النشأة والوجود. فليس من الغريب أن تستعين الشاعرة بعناصر خلق الكون الأربعة: ماء ونار وهواء وتراب. هي سلرى «دمها ماء ....و لها روحُ الأسلافِ...لها لون الطّينِ»، هذه الأنثى الرمز والأسطورة المنفى والملحمة المغزى... التي امتلك أنس العبيدي جرأة بعث الحياة في هذا الجسد من الحبر والكلمات وهذه القصيدة المتمردة والعصية عن الترويض. وهكذا غادرت «سلرى» الألواح المنسية لتستحيل فوق الركح إلى قصة حيّة وحركة نابضة وأنشودة حياة.

عودة إلى نشأة المسرح الأولى
كما استلهمت الشاعرة سلوى الرابحي في نظم ديوانها «سيرة الألواح المنسية» من أساطير الحضارات القديمة، فقد عاد المخرج أنس العبيدي في هندسة مسرحيته إلى منابع المسرح الأولى ونشأة أب الفنون في بدايات التأسيس في استدعاء لأركانه ومكوّناته وتقنياته... على غرار توظيف الجوقة لتضطلع بالإنشاد والتعليق على الأحداث. كما اختار المخرج أن يستعين بالقناع ليستحيل إلى وجوه ودلالات تلبسها الشخصيات.

ووفاء لتقاليد المسرح الإغريقي وطقوسه، كانت الخشبة رجع صدى لعزف الموسيقى ورقص الأجساد المتحركة، المتحوّلة على مقاس الصور الشعرية وتصاعد نسق دراما أبيات القصيد.

ولئن حافظ المخرج على النص الشعري دون تغيير أو تبديل، فإنه عدّد شخصياته ومنحها أدوار تمثيل النص الشعري بكل اقتدار . ولئن جاء أداء الممثلين مقنعا إجمالا مع تميز دون تلعثم أو إرتباك أو أخطاء في تلاوة النص، فقد عانت بعض المواطن من العرض من رتابة الإيقاع والخط النمطي لأداء الممثل على الركح.

في «سيرة الألواح المنسية، سلرى»، كانت للجمهور فرصة اكتشاف إبداع سلوى الرابحي في مخاتلة الحرف ونظم الشعر، فكان الامتنان لأب الفنون في احتضان ابنه الشعر ومزيد التعريف به.

وبعد أن بعث المخرج أنس العبيدي الروح في سطور ديوان شعري، نجح في توحيد العنصر اللفظي مع العنصر الموسيقي والإيقاع الحركي عبر شعرية مسرحية فذة.

في «سلرى» تجلّت ملحمة وجود عن أسطورة من ماء ونار تعزف لحن خلود الشعر كصرخة البدايات والنهايات.

الجذاذة الفنية للمسرحية

نص: سلوى الرابحي
دراماتورجيا واخراج: انس العبيدي
تمثيل: إيمان مماش ومحجوب الرداوي وياسمين صموت ومنال بن سعيد وشوقي سالم ومحمد ساسي القطاري ورفعت القطاري
الجوقة:صفاء الحاج ومحمد الراشدي
ضابط إيقاع: رامي الصيد
عازف ناي :ايهاب
مصمم إضاءة: رمزي النبيلي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115